الدكتور بشار الصرايرة يكتب: من الخدمات الحكومية إلى الإجراءات الحكومية.. إعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة

في سياق السعي نحو بناء حكومات المستقبل، تبرز الحاجة إلى ترسيخ أسس التحديث الشامل الذي لا يقتصر على التحول التكنولوجي، بل يشمل أيضًا تطوير الكفاءات البشرية وتعزيز الثقافة المؤسسية الداعمة للتغيير. وفي هذا الإطار، تواصل الحكومة الأردنية تنفيذ خارطة تحديث القطاع العام كأحد أبرز مسارات الإصلاح، ولا يمكن الحديث عن التحديث الإداري دون الإشارة إلى الجهود الكبيرة التي تبذلها الحكومة ضمن خارطة تحديث القطاع العام، حيث تُولي اهتمامًا بالغًا بتأسيس الأسس الجوهرية لنجاح التحول الحكومي. فقد ركّزت على تعزيز الثقافة المؤسسية التي تحتضن التغيير، إلى جانب الاستثمار المستمر في تدريب وتأهيل الكوادر الحكومية. هذه الجهود تمثل حجر الأساس لأي إصلاح إداري حقيقي، وتُعكس وعيًا متقدمًا بأهمية بناء قدرات الدولة من الداخل، كمدخل ضروري لتحقيق التحول المنشود في الأداء الحكومي وتجربة المواطن. ورغم أهمية هذه المنجزات، فإن تحقيق أثر حقيقي في حياة الأفراد يتطلب وعيًا دقيقًا بالفرق الجوهري بين الإجراءات الإدارية الداخلية التي تنظم سير العمل داخل الجهاز الحكومي، وبين الخدمات النهائية التي يتعامل معها المواطن أو المقيم أو المستثمر. إن ما يعوق تجربة المتعامل غالبًا لا يكمن في الخدمة الظاهرة، بل في تعقيد الإجراءات غير المرئية التي تسبقها، وهي إجراءات قد تتضمن مراحل متعددة من الموافقات والمراجعات والتحققات التي لا يدركها المتعامل، لكنها تنعكس سلبًا على جودة تجربته.ومن المهم في هذا السياق التمييز بين مفهوم “الخدمة الحكومية” و”الإجراء الحكومي”.فالخدمة هي الناتج النهائي الظاهر للمتعامل، مثل استخراج جواز سفر أو تسجيل رخصة تجارية، وغالبًا ما تكون مُعلنة ضمن دليل الخدمات الحكومية. أما الإجراء فهو سلسلة الخطوات الداخلية – الإدارية والقانونية والتقنية – التي تسبق تقديم هذه الخدمة. المشكلة أن الكثير من الجهود تتركز على تطوير الواجهة الخارجية للخدمة دون مراجعة المنطق العميق للإجراءات الداعمة لها، والتي قد تكون معقدة أو غير مبررة أو قديمة ولا تعكس الواقع المعاصر. لذلك فإن تحسين الخدمات لا يمكن أن يُختزل في أتمتة النماذج أو تحسين التصاميم، بل لا بد من تحليل الإجراءات الخلفية، وتحديد عنق الزجاجة فيها، وتبسيطها جذريًا. بعبارة أوضح: لا يمكن إصلاح تجربة المتعامل دون إصلاح الإجراءات التي تُنتج تلك التجربة.من هنا، لا يكفي أن تطلق الحكومات خدمات إلكترونية أو منصات موحدة دون مراجعة منطق الإجراءات التي ترتكز عليها تلك الخدمات. فالتحول الرقمي لا يُقاس بعدد التطبيقات ولا بواجهة الاستخدام، بل بمدى قدرتنا على تبسيط المعاملات وإزالة التعقيد غير المبرر من مساراتها. فكم من خدمة تم الإعلان عنها بصفتها “رقمية”، بينما لا يزال المتعامل مطالبًا بتقديم المستندات يدويًا أو مراجعة عدة جهات أو انتظار توقيع يمر عبر مستويات إدارية متعددة دون وضوح في المتابعة أو تحديد للمسؤولية.إن التحديث الحكومي الحقيقي يبدأ من الداخل، من إعادة التفكير في كيفية بناء الإجراءات، وليس من تكديس الأدوات الرقمية فوق هياكل تنظيمية تقليدية. فالإصلاح لا يتحقق بمجرد رقمنة النماذج الورقية أو تحويل الطوابير الواقعية إلى طوابير إلكترونية، بل حين يتم تفكيك الإجراءات القائمة، وتحليل أسباب التعقيد فيها، وإعادة بنائها وفق منطق جديد يضع احتياجات المستخدم في المركز، ويُعيد تعريف الغرض من كل خطوة ومتطلب.وهذا يتطلب منهجية تركز على التجربة لا على الخدمة فقط، بحيث لا تقتصر جهود الإصلاح على حصر الخدمات المعلنة، بل تمتد لحصر جميع الإجراءات التي تتقاطع مع المواطن، بما في ذلك التصاريح والموافقات والمعاملات الخاصة التي لا تظهر ضمن دليل الخدمات، لكنها تشكل عبئًا يوميًا على الأفراد. ولتحقيق هذا التحول، ينبغي تبني مبادئ إعادة هندسة العمليات التي تدعو إلى إعادة النظر جذريًا في طريقة تنفيذ العمل، بهدف تحقيق قفزات نوعية في الكفاءة والفعالية. كما يبرز دور تصميم الخدمات المتمحور حول الإنسان، حيث يُعاد تصور العملية من منظور المستخدم لا من منظور الجهة المنفذة، بما يضمن تماهي الإجراءات مع واقع المتعامل وتوقعاته.ولا يكتمل هذا النهج دون مراجعة جذرية لكل مرحلة من مراحل تقديم المعاملة، بدءًا من الطلب للوصول إلى التوقيع أو الموافقة النهائية للطلب. يجب أن تكون المسارات واضحة والمسؤوليات محددة، وأن تُبنى المتطلبات على أسس منطقية وواقعية، بحيث لا يُطلب من المواطن مستندات أو بيانات تحتفظ بها الحكومة أصلًا. فالمتعامل ليس وسيطًا بين قواعد البيانات الحكومية، ولا ينبغي تحميله عبء التنسيق بين الجهات أو إعادة تقديم معلومات سبق أن قدمها. فحين يُطلب من مسنّ في التسعين من عمره تقريرًا طبيًا لإثبات عدم قدرته على العمل، فإن ذلك لا يشكل فقط عبئًا إداريًا غير مبرر، بل يعكس انفصالًا بين القرار الإداري والواقع الإنساني.وعلى نحو مماثل، تبدو خدمة إصدار رخصة البناء – كما هي مُعلنة – وكأنها خدمة موحدة وبسيطة، إلا أن الواقع يكشف عن أكثر من 25 إجراء داخلي موزعة على ما يزيد عن 15 جهة حكومية، لكل منها اشتراطاته الخاصة، غالبًا ما تكون متعارضة أو غير متسقة. هذا التعقيد غير الظاهر يثقل كاهل المواطن والمستثمر، ويؤدي إلى إرباك وتضارب في المتطلبات، وتأخير في إنجاز المعاملة، ويُظهر فجوة واضحة بين الخدمة المعلنة والإجراءات الفعلية التي تحكم تقديمها.كما أن الشفافية تمثل ركيزة لا غنى عنها في هذا التحول، إذ يجب أن يتمكن كل متعامل من تتبع معاملته رقميًا ومعرفة الجهة المسؤولة عن كل مرحلة والمدة المتوقعة لإنجازها، دون الحاجة إلى المتابعة الشخصية أو الوقوع في دوامة المراجعات غير الواضحة. ولضمان ديمومة هذا التوجه، لا بد من ترسيخ آلية التحسين المستمر التي تتيح مراجعة الإجراءات بشكل دوري، وقياس النتائج، وتطبيق التعديلات استنادًا إلى تغذية راجعة منهجية تسهم في رفع كفاءة الأداء وتجويد التجربة.في المحصلة، لا تكمن الغاية في تجميل واجهة الحكومة الرقمية، بل في إعادة تشكيل العمق الإداري بحيث يشعر المواطن بالاحترام، ويعمل الموظف بكفاءة، وتُبنى الثقة بين الطرفين على أساس من التبسيط والعدالة والقدرة على التتبع. التحديث الحقيقي لا يُقاس بعدد المنصات بل بقدرتنا على تحويل المعاملة من عبء إلى تجربة، ومن شكوى إلى شراكة، ومن تعقيد غير مرئي إلى وضوح يُحتَرم ويُفهم ويُنجز بثقة.