الولاء بين القضاء والحرية: تفكر في قصة آدم وحواء – للكاتبة غادة عقل

الولاء بين القضاء والحرية: تفكر في قصة آدم وحواء – للكاتبة غادة عقل


هل يصحّ الوفاء بلا اختيار؟ تأمل إنساني في قصة آدم وحواء، بين سكينة القدر وحرية الإرادة. ما أشرف الحب حين تصقله التجربة، وما أزهر الوفاء إذا انبثق عن حريةٍ واعية لا تعصبه قيود ولا تغريه ظلال الضرورة. في قصة أبينا آدم وأمّنا حواء عليهما السلام، نقرأ ملحمة الصفاء الأول ونبراس السكينة، غير أن تأمل الحكمة الربانية يكشف أن ذلك الوفاء الأوّل كان قدرًا مطلقًا لم يعرف لطرق القلب بدائل، فكان رحمةً فريدة، لا امتحانًا لإرادةٍ تُخير. في زمن تتسع فيه الخيارات وتتلاطم فيه الرغبات، يستوجب على الإنسان أن يكتب قصة حبه ووفائه بمدادٍ من الحرية والاختيار، لتكتمل قيمة القلب ويعلو مقام الإخلاص.تظلّ سيرة آدم وحواء عليهما السلام من أعظم الرموز التي حفظتها ذاكرة الإنسانية عن فجر الخليقة، إذ مثّلت لقاء الروح بقرينها في أصفى مشاهد الرحمة وأبهى صور السكن. وقد جرى في ألسنة الناس أن حبهما هو أخلد ألوان الوفاء وأصدق مراتب الإخلاص، حتى صار مَثَلًا يُستحضر كلما ذُكر الثبات على العهد وصون الوداد. غير أنّ النظر البصير لا يغفل عن خصوصية هذا المقام، فقد كان آدم عليه السلام سيّدًا منفردًا في طور الخلق، لم يعرض عليه غير حواء زوجًا وسكنًا، ولم تتنوّع له الوجوه لتختبر مدار قلبه أو تمتحن صبره. فتجلّى حبه لها في أفق واحد لا يقبل منافسة، وجاء وفاؤه صافيًا من كل مقارنة، مستسلمًا لقدَرٍ لا يبدَّل ولا يزاحم.وليس في ذلك نقصٌ أو قدحٌ في مقامه الشريف، بل هو مقتضى الحكمة الإلهية، التي أرادت أن يكون بدء الخليقة على الطهر والوئام، فصاغت له قلبًا واحدًا يلتئم مع قلب واحد، ليكون منهما النسل والعمران. لكن حين يمتدّ التأمل إلى تجارب الناس من بعده، ندرك أن الوفاء الحقّ يزدهر حين يُبتلى، ويصدق حين يُخيّر صاحبه بين بدائل شتى، فيقدّم قلبه عن رضاٍ واختيار.وهكذا يبدو للإنسان أنّ ميول النفس نحو التجربة أمر لا يقدح في جوهر الطهر، بل يعكس نزوعًا أصيلًا إلى التحقق من صواب القلب وصحة القرار، حتى إذا أخلص بعد اختبارٍ واسع، أخلص بقلب مطمئن وعقل راسخ. إن توق الروح إلى رؤية ما وراء الأفق نزعة فطرية، لا تعني الغدر ولا تستبيح العهد، بل تؤكد أنّ الحرية وحدها هي التي تصنع الوفاء الأشد رسوخًا والأكثر سموًّا.فالحب الذي يولد في فضاءٍ رحبٍ من الإرادة والاختيار هو الحب الذي يليق بكرامة الإنسان، ويستحق أن يُحتفى به. إذ لا يزهو الوفاء ولا يشتد عوده إلا حين يواجه العواصف ويعرض على صاحبه ما يغريه بالتحول، ثم يثبت مع ذلك ويصمد، فتكون محبته حينها من معدنٍ نفيس، وصراحته لا تدانيها شبهة.ومع ذلك، تظلّ قصة آدم وحواء عليهما السلام منارًا هاديًا، تذكّرنا أن المودة أصلٌ راسخ في سريرة الإنسان، وأن الرحمة يمكن أن تزهر حتى في غياب المفاضلة والمقارنة، إذا صفا القلب واطمأنّت الروح. غير أنّ أبناء آدم، وقد أنعم الله عليهم بتنوّع الاختيارات وسَعة الآفاق، مدعوّون أن يجعلوا إخلاصهم صادرًا عن يقين، وأن يختاروا حبهم وهم أحرار، ليجعلوا وفاءهم شاهدًا على نبل نفوسهم وقوة إرادتهم.وهكذا نستلهم من القصة الخالدة جلال معناها، ونواصل نحن امتحان حريتنا في زمن تتشابك فيه الرغبات وتتسابق فيه القلوب. فلا قيمة للعشق إن لم يكن ثمرة إرادةٍ واعية، ولا معنى للوفاء إن لم ينطلق من أرض الحرية. وحين يستطيع المرء أن يختار محبوبه عن قناعةٍ تامة بعد أن يرى غيره، فذلك هو الوفاء الذي يليق به، وذلك هو الحب الذي يسمو بمقام الإنسان ويزكيه.