الدكتور بشار الصرايرة يطرح: تبسيط التحول الرقمي وتعزيز الشمولية الرقمية كسبيل لتحديث الإدارة الحكومية.

الدكتور بشار الصرايرة يطرح: تبسيط التحول الرقمي وتعزيز الشمولية الرقمية كسبيل لتحديث الإدارة الحكومية.


في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية وتُعاد فيه صياغة علاقة المواطن بالحكومة، لم يعد يكفي أن تتحول الإدارات العامة إلى النمط الرقمي، بل بات لزامًا أن ترتقي إلى مستوى أكثر نضجًا، يتمثل في بناء نظم حكومية رقمية ذكية، متكاملة، مبسطة، وشاملة. وفي هذا السياق، تبرز إزالة التعقيد الرقمي وتعزيز الشمولية الرقمية كمحورين جوهريين لإعادة بناء القطاع العام على أسس تتماشى مع متطلبات العصر الرقمي، وتحوّل التحول الرقمي من مشروع تقني إلى مسار تحولي شامل يعيد تشكيل جوهر الإدارة الحكومية وأدوارها. ويُفهم التعقيد الرقمي في الأدبيات الحديثة بوصفه التراكم غير المنسق للتقنيات والمنصات والإجراءات الرقمية داخل القطاع الحكومي، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف سهولة الاستخدام، وتعدد قنوات التفاعل غير المتكاملة، وتشتيت تجربة المستخدم بين خطوات معقدة ومواقع متعددة. وقد وثّقت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هذا التحدي بشكل واضح في تقاريرها الخاصة بنضج الحكومات الرقمية، والتي أظهرت أن الدول التي تعتمد منهجيات تصميم الخدمات الحكومية حول احتياجات المستخدم تحقق مستويات أعلى من الرضا العام، والكفاءة التشغيلية، والقدرة على التكيّف مع المتغيرات.وتُعد تجربة إستونيا نموذجًا رائدًا في إزالة التعقيد الرقمي، حيث اعتمدت مبدأ “مرة واحدة فقط”، أي عدم مطالبة المواطن أو الشركة بتقديم نفس البيانات لأكثر من جهة حكومية. كما أنشأت الدولة بنية تقنية موحدة من خلال واجهات إلكترونية تسهّل التكامل بين الجهات الحكومية، وتقدم الخدمات عبر منصة واحدة متكاملة، ما أدى إلى اختفاء النوافذ المتعددة التي كانت تشتّت جهود المواطنين والموظفين على حد سواء. هذا النموذج يُظهر كيف يمكن لسياسة رقمية وطنية متناغمة أن تزيل طبقات البيروقراطية الرقمية وتعيد تعريف الكفاءة الإدارية من منظور الخدمة الذكية والبسيطة.في المقابل، تمثل الشمولية الرقمية التحدي الأخلاقي والعملي المكمل لجهود الرقمنة. فالمواطنة الرقمية لا تتحقق ما لم يتم ضمان الوصول العادل إلى الخدمات الرقمية لكل فئات المجتمع، بغض النظر عن الموقع الجغرافي أو القدرات التقنية أو الفئات العمرية. وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن الفجوة الرقمية لا تتعلق فقط بالبنية التحتية، بل تشمل ما يُعرف بـ “الفقر الرقمي”، والذي يعني غياب المهارات الأساسية للتفاعل مع البيئة الرقمية، وضعف الثقة بالتقنية، وانعدام القدرة على التمييز بين المعلومات الموثوقة والمضلِّلة.وانطلاقًا من هذا الفهم، بادرت عدة دول إلى تطوير مبادرات وطنية للشمولية الرقمية، تركز على شمول الفئات المحرومة رقميًا، وتوفير الوصول المجاني إلى الإنترنت في المرافق العامة، وتصميم خدمات رقمية تراعي كبار السن وذوي الإعاقة.وبين هذين المحورين – إزالة التعقيد الرقمي وتعزيز الشمولية الرقمية – تتبلور خارطة طريق متكاملة لتحديث الإدارة الحكومية. تبدأ هذه الخارطة بإعادة هيكلة البنية التنظيمية الرقمية للقطاع العام، وتبسيط نماذج التشغيل، وتوحيد قنوات الخدمة في بوابات رقمية موحدة، تعتمد الهوية الرقمية الوطنية كأساس للدخول. ويترافق ذلك مع الانتقال إلى نموذج تقديم الخدمات الاستباقية، حيث تتمكن الدولة من توقّع احتياجات المواطن بناءً على تحليل بياناته العامة وسجله الخدمي ، ولضمان استمرارية هذا التحديث، لا بد من ترسيخ ثقافة التحسين المستمر المبني على البيانات، وذلك عبر تتبع أداء الخدمات بمؤشرات رقمية فورية، وتطوير الأنظمة بشكل مرن باستخدام أساليب التطوير التكراري والتجريبي .إن التحديث الحقيقي للإدارة الحكومية لا يتحقق بمجرد نقل الإجراءات الورقية إلى المنصات الإلكترونية، بل يتحقق عندما تعيد الحكومة تعريف ذاتها كمنصة تمكّن المواطن، وتزيل العوائق، وتدمج الجميع في دورة الحياة الرقمية للخدمة العامة. هذا التحديث يحتاج إلى سياسات قائمة على الحوكمة التشاركية الرقمية، التي تجمع بين الشفافية، والمساءلة، والانفتاح، وتمنح المواطن دورًا في تصميم وتقييم الخدمات، لا مجرد استخدامها.وعليه، فإن إزالة التعقيد الرقمي وتعزيز الشمولية الرقمية لا يشكّلان مجرد تحسينات تقنية، بل هما التزام وطني واستراتيجي يُسهم في بناء قطاع عام أكثر مرونة، وأكثر عدالة، وأكثر قربًا من الناس. حكومة تبني علاقات ذكية وشفافة مع المواطن، وتقدم خدماتها بلغة مفهومة وسهلة الوصول، وتحوّل التكنولوجيا من عقبة إلى جسر يُوصل الإنسان إلى حقوقه واحتياجاته بكفاءة وإنصاف.