غيث يسلط الضوء على أزمة غزة وتحديات التخاذل والنفاق بين الناس – تأليف د. زايد حماد غيث

بعد أكثر من ستمائة يومٍ على اندلاع الحرب والحصار الخانق على غزة، ما يزال إدخال حليب الأطفال، وأدوية النساء، بل وحتى أكفان الموتى، عقبةً تفاوضيةً تُدار على طاولات السياسة وكأن أرواح المدنيين بندٌ ثانوي. العالم الذي يرفع شعارات الحضارة وحقوق الإنسان يقف متردّدًا — بل إن قسمًا منه يبرّر،أو يصمت صمتًا يرقى إلى التواطؤ. هذه ليست أزمة إغاثية عابرة؛ إنها مجاعةٌ مصنَّعة، تتشكّل أمام أعيننا. لو أردت أن تفهم حجم التناقض الأخلاقي في النظام الدولي، قارن سرعة الحشد والتمويل والتغطية لأزماتٍ أخرى — بالأخص الأزمة الأوكرانية — مع البطء، التسييس، والتقييد البيروقراطي الذي يواجه أي محاولة لإيصال الغذاء والدواء إلى غزة. لسنا ضد إغاثة أحد؛ لكن معيار الإنسانية يجب أن يكون واحدًا. حين تُفتح الجسور الجوية شرقًا وتُغلق جنوبًا، فالمشكلة ليست في الإمكانات بل في الإرادة.منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) الذي أكّد حق الإنسان في مستوى معيشي يكفل الغذاء، مرورًا بالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة 11: الحق في الغذاء الكافي)، وصولًا إلى قواعد القانون الدولي الإنساني التي تحظر تجويع المدنيين كسلاح حرب (نصوص راسخة في البروتوكولات الإضافية واتفاقيات جنيف والقانون العرفي)، فإن ما يجري في غزة انتهاكٌ متعدد المستويات. منع أوعرقلة وصول المساعدات الإنسانية الأساسية، أو تدمير منظومات الغذاء والماء، أو حرمان السكان من مصادر العيش، كلها أفعال تُدرج ضمن سلوك محظور في النزاعات المسلحة. عندما تتحول قوائم الانتظار إلى مقابر، يغدو النص القانوني شاهدًا اتهاميًا على تقاعس المجتمع الدولي.قد يقول قائل: ما علاقة المجتمع الدولي بنا؟ لا يجمعنا بهم لغةٌ ولا تاريخٌ ولا دين. لكن ماذا عنّا نحن العرب والمسلمين — الأقرب دمًا ولسانًا ووجدانًا؟ لماذا يظلّ كثيرٌ من خطابنا عن غزة خطابات غضبٍ عابر على المنصّات، بينما يبقى الفعلُ الخيريُّ المنظّم محدودًا، متقطّعًا، أو موسميًا؟ العجز الأخلاقي أخطر من العجز السياسي؛ لأن الأول اختيار.في العمل الإغاثي نعرف قاعدة متكررة: يتراجع التبرع الشعبي عادةً بعد مرور سنواتٍ طويلة على الأزمة المزمنة. لكن ما نراه مع غزة هو فتورٌ مبكّر، بينما الحرب والحصار لم يبلغا حتى عامهما الثاني بعدُ. صور الأطفال الذين يتقاسمون الدقيق الملوث، والمرضى الذين ينتظرون جرعة مضاد حيوي، تُبث يوميًا — ومع ذلك يتراجع العطاء. هذا التراجع لا يُفسَّر إلا بكلمة واحدة: تخاذل.نسمع من يقول: “أين العرب؟ أين المسلمون؟” وهو نفسه يجلس إلى مائدةٍ عامرة، لم يقتطع من دخله دينارًا واحدًا لغزة منذ أشهر. تُنشر صور موائد وفخامة مناسبات ثم تُرفق بتغريدةٍ حارّة عن الجوع في غزة! هذا ليس تعاطفًا؛ إنه تزيين للضمير أمام المتابعين. النفاق الاجتماعي يبدأ حين يتحوّل الألم الحقيقي لشعبٍ محاصر إلى مادة تداولية في المجالس والوسائط، بلا فعل، بلا التزام.سيكتب التاريخ أن ما يقارب ملياري مسلم على وجه الأرض — ومعهم شعوبٌ عربية تمتلك موارد، طاقات شبابية، ومنصّات إعلامية واسعة — عجزوا عن ضمان تدفقٍ منتظمٍ للطعام والماء والدواء إلى نحو مليوني إنسان محاصَر. قد لا يقرأ جيلُ اليوم كتبَ التاريخ، لكن أبناءنا وأحفادنا سيتساءلون: أين كنتم؟وسط هذا المشهد القاتم، هناك مبادرات مؤسسية جادة تستحق الدعم؛ من بينها الجهود المنظّمة التي تُشرف عليها الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية وشركاؤها، إضافةً إلى منظمات إغاثية ميدانية توصل المواد الغذائية والطبية بوسائل برية، جوية، أو بحرية حين يُتاح ذلك. هذه القنوات، وإن بدت محدودة قياسًا بحجم الحاجة، إلا أنها قنوات حياة؛ كل شحنة حليب، كل وجبة جاهزة، كل كرتونة دقيق، تعني أطفالًا يعيشون يومًا آخر.لن يعوّض البيان المتأخر طفلًا رحل لأنه لم يجد جرعة تغذية علاجية. لن تمحو المقالات الندية أثر جوعٍ كان يمكن دفعه بقليل مالٍ وصدقٍ وإرادة. التاريخ يُكتَب الآن، فلنقطع من أرزاقنا لنسدّ جوعهم؛ فلنحوّل الغضب إلى أملٍ يصل في شاحنة، أو طرد غذائي، أو حليبٍ يصل قبل فوات الأوان.