الصرايرة يكتب: التأثير الاستراتيجي كدافع للتحول الحكومي.. من إدارة المهام إلى رؤية التأثير ـ بقلم: الدكتور بشار الصرايرة

الصرايرة يكتب: التأثير الاستراتيجي كدافع للتحول الحكومي.. من إدارة المهام إلى رؤية التأثير ـ بقلم: الدكتور بشار الصرايرة


شهد العالم خلال العقدين الأخيرين تحوّلًا جذريًا في فلسفة إدارة القطاع العام، حيث تخلّت الحكومات الحديثة عن مفهوم الإدارة التقليدية القائم على التركيز على الأداء التشغيلي والنتائج الكمية المحدودة، وتبنّت نهجًا أكثر شمولية يركز على قياس الأثر الفعلي للمشاريع والمبادرات على حياة الناس والمجتمعات والاقتصاد. أصبحت الحكومات الرائدة تدرك أن النجاح الحقيقي لا يُقاس بعدد المشاريع المنجزة أو تسريع الإجراءات الإدارية، بل بتأثير هذه المبادرات على تحسين جودة الحياة، وتعزيز النمو الاقتصادي، وبناء مجتمع أكثر شمولية وعدالة. لقد تبنّت بعض الحكومات نماذج مرجعية علمية لتصميم وتقييم السياسات العامة، والتي لا تقتصر على قياس مؤشرات الإنجاز الإداري أو الكفاءة التشغيلية، بل تدمج نظرية التغيير بشكل جوهري، لتُركّز على العلاقات السببية بين التدخلات الحكومية والنتائج الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية. في هذه النماذج، على سبيل المثال يتم تحليل كيف تؤثر السياسات في تقليل الفقر وخفض معدلات البطالة ، وتحسين الصحة العامة، وتعزيز المشاركة المجتمعية، مع مراعاة الاستدامة على المدى البعيد.وقد رسّخت العديد من الحكومات مفهوم ‘الحكومة التي تحدث الفرق’ من خلال دمج تقييم الأثر في كافة مراحل صياغة وتنفيذ السياسات. لا تُنفذ أي مبادرة بدون وجود خطة واضحة لقياس الأثر المتوقع، مع متابعة دقيقة لمؤشرات جودة الحياة، ومؤشرات رأس المال الاجتماعي ، ومؤشرات النمو الاقتصادي. هذا النهج يبرهن أن التركيز على الأثر بدلاً من الأداء وحده يؤدي إلى قرارات أكثر دقة، وتخصيص موارد أكثر فعالية، وزيادة ثقة المواطنين في الدولة. ويعزز مفهوم القيمة العامة الذي يعكس جهود الدولة على ارض الواقع .في نماذج أخرى، تحول مفهوم التقييم من مجرد ‘تقارير أداء’ إلى منظومة شاملة مبنية على تحليل الأثر، تضمن أن كل سياسة عامة أو مشروع استراتيجي يساهم بشكل ملموس في خلق فرص عمل، وتقوية رأس المال الاجتماعي، وتعزيز مرونة الاقتصاد في مواجهة الأزمات. تُطبق هذه النماذج التقييم المستند إلى الأثر كجزء لا يتجزأ من دورة السياسات العامة، بحيث يتم توجيه الاستثمارات نحو المبادرات التي تُحدث تغييرًا نوعيًا في المجتمع، وليس فقط تلك التي تحقق نتائج عددية عابرة.عند النظر إلى خارطة تحديث القطاع العام في الأردن، نجد أنها طموحة في إطارها النظري، وتهدف إلى بناء قطاع حكومي مرن، كفؤ، وقادر على مواكبة المستجدات، لكنها بحاجة إلى تضمين ممارسات قياس الأثر الحقيقية سواء على مستوى الأداء المؤسسي أو على مستوى المجتمع. الخارطة تركز في معظم بنودها على إعادة هيكلة المؤسسات، تحسين الإجراءات، وتطوير الخدمات، فمن الضرورة بمكان ان تتبنى أدوات تقييم الأثر الاستراتيجي التي أصبحت اليوم معيارًا عالميًا لقياس النجاح الحكومي والذي يبين ما يلمسه المجتمع والناس .من الأدوات الحديثة لقياس الأثر: تحليل التكلفة والفائدة، الذي يساعد في تحديد ما إذا كانت المبادرات تحقق قيمة مجتمعية تفوق تكلفتها، وأداة تحليل التكلفة والفعالية التي تتيح المقارنة بين سياسات متعددة لتحقيق أفضل نتائج بأقل الموارد. إضافة إلى ذلك، تُستخدم نماذج التحكم الاصطناعي (Synthetic Control Models) لتقييم السياسات عندما لا تتوفر مجموعات مقارنة طبيعية، وكذلك التحليل الحساس (Sensitivity Analysis) الذي يضمن سلامة النماذج المطبقة وشفافيتها. كما يُستخدم التقييم القبلي والبعدي لفهم التغيرات قبل وبعد تنفيذ السياسات او المشاريع الوطنية، وضمان توافقها مع الأهداف الوطنية والمجتمعية.الأردن بحاجة ماسة إلى نقل مفهوم القياس من مجرد تقييم الأداء إلى قياس الأثر الفعلي. المطلوب هو بناء منظومات تقييم متكاملة، تبدأ بتصميم سياسات قائمة على نظرية التغيير، وتُتبع بإطار مؤشرات أثرية تتجاوز المؤشرات الكمية البسيطة مثل عدد الخدمات الإلكترونية أو عدد مراكز الخدمة المنشأة. يجب أن تُقاس السياسات الأردنية بناءً على قدرتها على تحسين مستوى معيشة المواطنين، خفض معدلات البطالة، تقليص فجوة الثقة بين الحكومة والمجتمع، وتعزيز التماسك الاجتماعي. إن إعادة بناء ثقة المواطنين لا تتم عبر شعارات تحسين الأداء، بل عبر سياسات مبنية على الأثر تُظهر التزام الدولة بتحسين حياة الناس، لا مجرد تسريع الإجراءات. وإذا ما أرادت خارطة تحديث القطاع العام في الأردن أن تحقق تحوّلًا حقيقيًا، فعليها أن تنتقل من التركيز على ‘ما ننجزه’ إلى ‘ما الأثر الذي نُحدثه’، مستلهمة بذلك أفضل الممارسات العلمية لتصميم نموذج أردني أصيل، يستجيب لخصوصية المجتمع الأردني ويحقق التنمية المستدامة.