خريسات يكتب: عندما كنا نتحلى بالحياء دون الحاجة إلى قوانين – بقلم: أ. فراس خريسات

كان الطفل إذا أخطأ… خاف من صوت أبيه، وإن لم يكن الأب حاضرًا، خاف من نظرة عمّه،وإن لم يكن، فصوت الخال، أو لمحة من الجار، أو تنهيدة من المعلم، أو حتى عبوس الزميل في الصف. لم يكن الخطأ في زمن مضى شأنًا فرديًا، بل مسؤولية مجتمعية تُطوّق الفتى من كل الجهات.كانت الأخلاق مظلة، وكان “العيب” حارسًا لا ينام.لا تحتاج يومها إلى كاميرات، ولا إلى قوانين تُلزمك بلباس محتشم، ولا إلى إعلانات توعوية تمنعك من السب والشتم، ولا إلى رقابة تُعلّمك أن لا تُقاطع، أو أن تحترم الكبير، أو أن تستحي من الخطأ.لأنك كنت محاطًا بأسوار من الحياء…العم يربي ،،،الأخ يعاتب ،،،الخَال يؤدب ،،،الجار يلوم ،،،المعلم يوجّه ،،،الصديق يُذَكِّر ،،،والمجتمع كله، كان بمثابة مرآة نقيّة تُريك قبح الخطأ حتى لو لم تُمسَك متلبسًا.كان الطفل يُربّى قبل المدرسة،وكان الفتى يخجل من أمه وأبيه قبل أن يخاف من شرطتهم،وكانت جملة “عيب يا ولد” تُسكت اللسان وتُهذب النفس،وكان لكلمة “الرجولة” طيف من الخجل النبيل، لا يُفارق صاحبه مهما كبر.فأين ذهب كل ذلك؟ما الذي جفّف أنهار الحياء؟كيف غابت تلك الغصّة التي كانت تعتلي صوت الأم حين تقول: “شو يقولوا الناس؟”لا بمعناها السلبي، بل بذلك الحسّ الذي يدرك أن الإنسان لا يعيش وحده… بل يعيش بين عيون.ليس ما نقوله هنا حنينًا أجوف، ولا دعوة لتأليه المجتمع، بل هو صرخة في وجه التفلت الذي يسمّيه البعض حرية.نحن لا نريد مجتمعات قمع،لكننا لا نقبل بمجتمعات انحلال تُصفّق للسقوط بدعوى “كل واحد حرّ”.الحرية لا تنبت بلا حياء، ولا تستقيم بدون خطوط حمراء داخلية… لا تُرسم بالحبر، بل بالحسّ.العيب لم يكن سيفًا يُسلّط،بل بوصلَة داخلية تُوجّه.لم يكن العيب تحقيرًا للإنسان،بل تذكيرًا له أنه إنسان.فليتنا نُعيد بناء جدران الحياء،لا بالزجر والعقوبة، بل بالحبّ والتربية، وبعودة الدور للعمّ والخال والمعلم والجار…وبكلمة “عيب” التي كانت تُربّي أكثر من ألف نص قانوني. نحتاج أن نُعيد للمجتمع ضوءه الأخلاقي، لا ليحاصرنا بالخوف، بل ليُضيء لنا طريق النجاة.فإذا استردّ الحياء مكانته، عاد الأب أبًا،وعاد العمُّ رُكنًا، وعاد المجتمع مرآة،وعادت الأخلاق ديانة ومروءة… لا واجبًا وظيفيًا، ولا سلعة استهلاكية.“الحياء… ليس بقايا زمن، بل بذرة نجاة”يا ليتنا لم نعامل الحياء على أنه من مخلفات الماضي…كأنما هو ضيف ثقيل، أو عادة قروية بالية لا تصلح للمدن الكبيرة.ونسينا أنه النور الذي كان يمنعنا من الزلل حتى في الظلمة.ما قلّ الحياء يومًا، إلا وسقط معه شيء من جمال الإنسان.كلما خفتَ وهج العيب… زادت الفوضى، وضاعت النخوة، وذبلت الشهامة. فصار الشاب يصرخ في وجه أمه،وتتبرج الفتاة لتُثبت ذاتها،ويضحك الناس على من يتمسّك بالمروءة… كأنها عيب، لا فضيلة.لكننا لا نزال نستطيع أن نُضيء تلك الشمعة.لا نريد أن نعود للماضي كما هو، بل نُعيد بناء قيمه… بعقل هذا الزمن، وروح ذلك الزمن.علّموا أبناءكم أن الحياء لا يُضعف، وأن العيب ليس سجنًا، بل حاجزًا يمنع الانزلاق.ازرعوا فيهم خجلًا نبيلًا، لا رعبًا، وازرعوا فيهم نخوةً لا تتزين أمام الكاميرا، بل تظهر حين لا يراهم أحد.فإن فعلنا…فربما، فقط ربما، يعود ذلك الزمن… لا ليُكرر نفسه،بل ليُصلح ما انكسر فينا حين ظننا أن “الحرية” تعني أن نستحي من الحياء ذاته.