الصرايرة يكتب: الحكومة المستقبلية.. رؤية استراتيجية جديدة لتطوير الإدارة الحكومية في الأردن – تأليف: الدكتور بشار الصرايرة

تواجه الحكومات المعاصرة، ومنها الحكومة الأردنية، تحديات متسارعة فرضتها موجات الابتكار التكنولوجي، تطور تطلعات المواطنين، وتنامي متطلبات تحقيق التنمية المستدامة. وانطلاقًا من التزام الأردن بتعزيز كفاءة جهازه الحكومي، جاءت خارطة تحديث القطاع العام كأداة استراتيجية لإعادة تطوير القطاع الحكومي، تطوير الإجراءات، وتحسين جودة الخدمات، مع الاستثمار في رأس المال البشري. ومع مرور ثلاث سنوات على إطلاق الخارطة، تبرز الحاجة الملحة لإجراء مراجعات فكرية واستراتيجية معمقة، لضمان توافق المبادرات مع الرؤية الملكية في تحديث الإدارة العامة، وتعظيم الأثر التنموي. ورغم غنى الخارطة بأكثر من 200 مبادرة، إلا أن غياب توجه استراتيجي موحد يجعل هذه المبادرات مجرد مبادرات منفذة وغير مترابطة لتحقيق هدف أسمى، ما يقلل من قدرتها على إحداث تحوّل حقيقي ومستدام. هنا يبرز مفهوم الحكومة الممكنة (Enabling Government) كإطار فكري رفيع، قادر على توحيد الجهود، وتوجيه كافة المبادرات نحو غاية مشتركة: بناء حكومة مرنة، ممكنة، وشاملة، ترتكز على تمكين المواطن. الحكومة الممكنة: فلسفة جديدة في الإدارة الحكومية وهي ليست مجرد تحسينات تشغيلية أو تسريع للخدمات، بل تمثل تحولًا جذريًا في فلسفة الإدارة العامة، حيث تتحول الحكومة من كونها جهة تنفيذية تقليدية إلى شريك وممكن، يفسح المجال أمام المجتمع والقطاع الخاص للمساهمة الفاعلة في التنمية وصناعة المستقبل ، والاشارة الى تقرير صادر عن البنك الدولي يدعو الى تبني التحول العالمي في دور الحكومات، وكيف أصبحت تميل أكثر نحو “التمكين” بدلاً من “الاحتكار” ، من خلال تهيئة بيئة تنافسية يعتبر القطاع الحكومي فيها ممكن وخالق للفرص ، و يصف البروفيسور بيترسون في كتابه Public Sector Leadership: Theory and Practice الحكومة الممكنة بأنها قادرة على بناء القدرات وتسعى لحكومات متكاملة ومترابطة تقوم على الشفافية والثقة، وتطلق العنان للإبداع الجماعي كدعامة أساسية للنهوض المؤسسي. ويشير دراكر في كتابه The Effective Executive إلى أن غياب التوجه الفكري الإداري الموحد يحول حتى أكثر المبادرات طموحًا إلى مجرد محاولات تكتيكية قصيرة الأمد، تفقد القدرة على إحداث تغيير بنيوي طويل المدى.تسعى الحكومة الممكنة إلى تحويل المواطن من مستهلك للخدمة إلى شريك فاعل في صياغة القرار، من خلال إشراكه في تصميم السياسات وتعزيز الشفافية المؤسسية. وتعتمد على تجاوز النماذج البيروقراطية الجامدة وتبني منظومات ديناميكية قادرة على الاستجابة السريعة للتغيرات والمتطلبات الجديدة، بما يعكس مرونتها وقدرتها على التكيف. كما تركز على إعادة توجيه الأداء الحكومي ليُقاس بالأثر المباشر على جودة حياة المواطنين، وليس بالأرقام المجردة أو حجم الأنشطة.يتجسد دور الحكومة الممكنة في كونها جهة تمكّن من خلال تأسيس بيئة تشريعية وتنظيمية حاضنة، وتيسير الشراكات مع مختلف الفاعلين، بما يعزز الابتكار ويحفز التميز. كما تلعب دور المنظم الذي يضمن التوازن في النظام الإيكولوجي المجتمعي، ويحمي الحقوق، ويرسخ العدالة والمساءلة. ولا يغيب دورها كمنفذ للخدمات الحيوية بكفاءة وعدالة، مع الحفاظ على مرونة الأداء وتركيز الجهود على تحقيق النتائج الجوهرية، بما يحقق التوازن بين المسؤولية التنفيذية والتمكين المؤسسي. وهنا يكمن ضرورة بناء توجه استراتيجي موحد للتطوير الحكومي، وبغيابة يضعف قدرة الحكومة على تحقيق التغيير المنشود ذو الأثر على الناس ، واعتماده كتوجه استراتيجي فكري يعكس المبادرات والمشاريع في الخارطة ويحولها إلى منظومة متكاملة قائمة على مفهوم موحد ، وهذا المفهوم ليس مجرد خيار إداري، بل هي إعلان التزام بفلسفة التمكين الحكومي والتي تشكل حلقة وصل محورية بين الإصلاح الإداري والرؤية الاقتصادية الوطنية، حيث تتحول من كونها مجرد جهاز إداري إلى شريك استراتيجي فعّال في تحفيز النمو الاقتصادي ، رؤية حديثة تعيد تعريف دور الحكومة من مقدم خدمات تقليدي إلى شريك استراتيجي وقائد للتغيير.