المرأة الحزينة تكتب: التوازن بين حرية التعبير وجرائم التطاول على الشخصية وفقًا لقانون الجرائم الإلكترونية في الأردن

مدار الساعة – كتبت راما عادل الحزينة – مع اتساع نطاق الفضاء الرقمي وتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى منصات مفتوحة للنقاش العام والتفاعل الحر برزت الحاجة إلى تنظيم استخدام هذه الوسائل بما يضمن احترام الحقوق والحريات من جهة، وحماية الأفراد من الإساءة والاعتداءات المعنوية من جهة أخرى. فالتطور التكنولوجي وإن كان قد أتاح مساحة غير مسبوقة للتعبير، إلا أنه في الوقت نفسه كشف عن ثغرات قانونية وتنظيمية تتطلب مراجعة دقيقة لا سيما فيما يتعلق بحدود حرية الرأي والتعبير مقابل حماية السمعة والكرامة الإنسانية. تُعد حرية التعبير من الحقوق الأساسية التي كفلها القانون الدولي، حيث نصّ عليها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 19، مؤكداً على حق كل فرد في التعبير عن آرائه بحرية وتلقي ونقل المعلومات والأفكار دون تدخل. وهذه الحماية الدولية تشكل الأساس الذي تُبنى عليه القوانين الوطنية لضمان حق الرأي والنقد والمساءلة.وفي ظل التوسع الهائل في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمنصات للنقاش العام والنقد المجتمعي، أصبح من الضروري أن يكون هناك توازن دقيق بين حماية هذا الحق وضمان عدم المساس بسمعة وكرامة الآخرين. وفي هذا السياق جاء قانون الجرائم الإلكترونية الأردني رقم 17 لسنة 2023، والذي تضمّن في المادتين 15 و16 نصوصًا تهدف إلى مكافحة الإساءة الرقمية بما يشمل الذم والقدح والتحقير واغتيال الشخصية.إلا أن المادة 15، ورغم أهميتها في الحد من التجاوزات، لا تُميز بشكل دقيق بين ما يُعد رأيًا مشروعًا أو نقدًا بناءً، وما قد يُشكّل ذمًا أو تحقيرًا أو نشرًا لأخبار كاذبة. هذا الغموض التشريعي قد يؤدي إلى تفسيرات متباينة، ويُعرّض حرية التعبير وخاصة الصحافة إلى خطر التقييد أو الملاحقة، حتى في حالات النقد المهني أو الاجتماعي المتزن. كما أن النص ذاته جمع بين أنواع من الجرائم تختلف جوهريًا من حيث طبيعتها وآثارها، إذ لم يُفرّق بوضوح بين الجرائم التي تستهدف الدولة كجريمة نشر الأخبار الكاذبة التي تمس الأمن الوطني، وبين جرائم الذم والقدح والتحقير التي تُوجَّه إلى الأفراد والتي تتسم بطبيعة مختلفة كليًا من حيث الأثر القانوني والمجتمعي. هذا الدمج من دون تمييز ينعكس سلبًا على اليقين القانوني ويُضاعف من مساحة التأويل، خاصة وأن النص لم يُحدّد الفرق بين الرأي والنقد المشروع من جهة، وبين الإساءة أو التجريح من جهة أخرى، مما يفتح الباب أمام تقييد حرية التعبير بذرائع فضفاضة. يُضاف إلى ذلك أن العقوبات التي فرضها القانون جاءت مغلظة بشكل مفرط، إذ تبدأ الغرامات من خمسة آلاف دينار، وهو مبلغ كبير قد يُشكّل عبئًا ماديًا ونفسيًا على الأفراد، ويبعث برسائل تخويفية تمس جوهر حرية التعبير، في الوقت الذي تتجه فيه التشريعات الحديثة نحو العقوبات التربوية والإصلاحية بدلاً من الردعية القاسية.أما المادة 16، التي تناولت جريمة اغتيال الشخصية، فتبرز من خلالها إشكالية قانونية تتعلق بغياب تعريف دقيق وواضح لهذا المفهوم. وهنا يُسجّل عدد من النواقص الجوهرية في النص، أهمها أن المشرّع لم يُعرّف صراحةً اغتيال الشخصية، كما أنه لم يُحدّد إن كان المقصود بها يشمل فقط الشخصية الطبيعية أم يطال كذلك الشخصية المعنوية أو العامة. إضافة إلى ذلك، لم يُوضّح النص ما هي الأفعال التي تُشكّل اغتيالًا للشخصية، بل ترك العبارة مفتوحة وغامضة، مما يُضعف من البنيان التجريمي ويجعل التطبيق القانوني عرضة للتأويل والاجتهاد غير المنضبط.ويُضاف إلى ذلك غياب معيار واضح للتجريم في سياق اغتيال الشخصية، وهو ما يعكس بدوره غياب ضمانات كافية لحماية الحق في التعبير، خاصة عندما يُستخدم هذا النص في مواجهة الانتقادات الموجهة إلى الشخصيات العامة. ويظل مفهوم اغتيال الشخصية في ظل هذا الغموض محل تساؤل مشروع: فما المقصود به تحديدًا؟ وما الفرق بينه وبين جرائم الذم والقدح والتحقير؟ وهل يشمل فقط الأفعال التي تمس مصداقية الشخص أو سمعته أو مركزه الاجتماعي؟ أم أن توجيه اتهام بالفساد دون دليل يدخل كذلك ضمن نطاقه؟ إن عدم التمييز بين هذه المفاهيم وتركها مفتوحة للتأويل قد يؤدي إلى تقييد غير مبرر لحرية التعبير، لا سيما في القضايا ذات الطابع العام، ويُثير مخاوف حقيقية بشأن الأمن القانوني وضمانات العدالة.ومن هنا، فإن النص بصيغته الحالية يفتقر إلى ضوابط محددة، مما يترك مجالاً واسعًا لاجتهادات قضائية قد تختلف في تقديرها من حالة إلى أخرى. وهذا ما يستدعي، من باب التحسين والتطوير التشريعي، مراجعة هذا المفهوم وضبط معاييره القانونية بما يضمن تطبيقًا منضبطًا ومتوازنًا.فعلى سبيل المثال، إذا وجّه أحد المواطنين أو الصحفيين انتقادًا علنيًا يتعلق بوزير أو رئيس بلدية حول مسألة أداء إداري أو وجود شبهات فساد، فإن التساؤل المشروع هنا هو: هل يُعد هذا السلوك نقدًا مشروعًا يدخل ضمن حرية التعبير والمساءلة؟ أم أنه يمكن أن يُفسّر باعتباره اغتيالًا للشخصية؟ غياب التحديد الدقيق في النصوص قد يؤدي إلى استخدام هذه المادة في غير مقصدها الأصلي ويؤدي إلى نتائج لا تنسجم مع المبادئ الدستورية لحماية الحقوق والحريات.تُبرز هذه الإشكالية الحاجة الملحّة إلى إعادة تقييم صياغة المواد القانونية وتطويرها بما يحقق التوازن المطلوب بين حماية السمعة الشخصية وحرية التعبير، لا سيما عندما يكون الحديث موجّهًا إلى شخصيات عامة تتولى مسؤوليات تؤثر في الشأن العام. فمثل هذا التوازن لا يحمي فقط حقوق الأفراد، بل يُسهم كذلك في تعزيز الشفافية وتكريس مبدأ المساءلة وبناء ثقافة قانونية قائمة على احترام الحقوق وضمان عدم إساءة استخدامها.وعند التأمل في هذا الواقع يتبيّن أن حماية حرية التعبير، كحق أصيل كرّسته المواثيق الدولية والدستور الأردني، لا ينبغي أن تتناقض مع ضرورة صون كرامة الأفراد وسمعتهم. إلا أن غياب التحديد التشريعي الدقيق للمفاهيم القانونية مثل اغتيال الشخصية، وافتقار النصوص إلى معايير فاصلة بين الرأي المشروع والإساءة، يؤدي إلى إرباك في التطبيق العملي ويُهدد استقرار القاعدة القانونية.وبناءً على ما سبق، تُعد مراجعة النصوص القانونية ذات العلاقة، وفي مقدمتها المادة 16 من قانون الجرائم الإلكترونية، ضرورة تنظيمية وتشريعية ملحّة لا انطلاقًا من رغبة في الانتقاد أو تقليص الحماية القانونية، بل استنادًا إلى حرص جاد على تعزيز فاعلية النصوص وضمان انسجامها مع المبادئ الدستورية والمعايير الدولية. وتشكل هذه المراجعة خطوة أساسية نحو ترسيخ حماية مزدوجة تصون كرامة الأفراد من جهة، وتكفل حرية الرأي والنقد المسؤول من جهة أخرى ضمن إطار قانوني منضبط.ويأتي تحقيق هذا الهدف من خلال بناء بيئة قانونية متوازنة ومستقرة، تصبّ في جوهرها في مصلحة الدولة والمجتمع، وتقوم على وجود تشريعات دقيقة واضحة، وقضاء متخصص يمتلك القدرة على تفسير النصوص وفقًا لضوابط العدالة الدستورية، إلى جانب تعزيز وعي مجتمعي عميق بطبيعة حرية التعبير وحدودها. ومن خلال هذا التوجه المتكامل، يمكن الوصول إلى معادلة توازن دقيقة تحقق حرية مسؤولة، وتحمي كرامة الإنسان، وتُعزز ثقة المواطن في القانون ومؤسساته.