أبو زيد يكتب: المشروع النهضوي العربي تحول إلى وهم! ـ بقلم: زيد أبو زيد

أبو زيد يكتب: المشروع النهضوي العربي تحول إلى وهم! ـ بقلم: زيد أبو زيد


ليس وقف الحرب على غزة المستمرة لما يقرب من العامين وما حملته من مشاهد مروعة وقتل وتدمير وإبادة، أو جمود الحل الذي تتحقق فيه الدولة الفلسطينية المستقلة بعد ما يقرب من ثمانية عقود على إحتلال فلسطين، ولا غياب الدور العربي عن المشهد العالمي بكل تفاصيله، ولا فشل النظام الرسمي العربي من وقف الصراعات الأهلية في ليبيا واليمن والسودان مؤشراً يمكن المرور عليه مروراً عابراً، فالقضية باتت واضحة تمامًا أن النظام الرسمي العربي فشل فشلاً ذريعًا في لعب أي دور على المستوى الأقليمي والعالمي بشكلٍ جليٍ وواضح، وليست الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل أو التغيير الجذري في الحكم في لبنان وسوريا والذي جعلهما أنظمة في مهب الريح رغم أنهما كانتا لعقود تحت نفوذ إقليمي تغيرت في تغير أنظمتهما قبعات النفوذ لا غير، ولكن الأمر الأكثر خطورة هو تخلي النظام الرسمي العربي تمامًا عن دوره في إحداث التنمية والإستثمار في دول العالم العربي لتحقيق الاستقرار فيها، بل اتجه بمعظمه إلى الإنكفاء القطري وتكبيل نفسه باتفاقيات مع دول عظمى والانسلاخ شبه الكامل عن عمقه العربي الذي يمثل في حقيقته المستقبل الحقيقي الذي يمكنها من لعب دور حقيقي في المنطقة والعالم. وهنا لا شكّ في أنّ وسائل الإعلام العربية تتغنى بأدوار قادتها ودورهم الضاغط في الصراعات والتوسط، وربما الإغاثة الانسانية لغزة والسودان واليمن وغيرها، ولكن المشهد برمته يبدو فيه العالم العربي متشرذمًا ممزقًا تسوده الصراعات ويسود بعضه الشعور بعظمة ما حققته على الصعيد القطري من تطور وهو في حقيقته كالمشروع النهضوي العربي سراب على المدى المتوسط والبعيد.ورغم ما يظهر من علاقات عربية – أمريكية كتطورة واستراتيجية لكننا لم نسمع، ولم نشهد، ولم نلمس حتى الآن أنّ تغيرًا طرأ أو سيطرأ على التكتيك السياسي الأمريكي بسبب هذه المواقف العربية في الوقوف إلى جانب الحق العربي بل أن ما يحدث هو مزيداً من الدعم اللامحدود للمشروع الصهيوني.أمّا الجامعة العربية التي كإنّ إنشاؤها من أجل أنْ تنتقل نقلة نوعية في العمل العربي المشترك، نراها الآن قد هُمِّشت وأصبح دورها رمزيًّا ولا تؤدي الدور المناط بها، ويتحمّل النظام الرسمي العربي مسؤولية ذلك؛ فه مَن همشها وتركها وتنصل من التزاماته كلها التي اتفق عليها العرب يومًا ما في ميثاق هذه الجامعة؛ ما أدى الى هذا الدور الهامشي الذي أصبحت تؤديه، ولا يتعدى بيانات خجولة وقمم لا تحقق أبسط قواعد العمل العربي المشترك ليختفي تمامًا الحديث عن فتح الحدود أو السوق العربية المشتركة بل أن التعقيدات تزيد أمام المواطن العربي في عالمه العربي الحزين.وعلى الرغم من صعوبات عمل جامعة الدول العربية، فإنّ تعطيل دورها إنكار لحاجة الدول العربية إلى التضامن والتكامل والتنسيق إزاء تهديدات الكيان الصهيوني، وانحياز الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وتحديات العولمة والشراكات الإقليمية، في مجالات التنمية والنهـوض أيضًا.إنّ الوضع العربيّ الراهن يقتضي تفعيل دور هذه الجامعة وإعادة المكانة لميثاقها الذي وقّع عليه العرب، وأن يكون لها رأي ملزم للأطراف العربية جميعها، وأن يكون لها أدوار أخرى جديدة في دعم التكامل الاقتصادي، ونرجو أنْ تكون القمم العربية القادمة علامة فارقة في تغيير ذلك، وإن كنت أشك في ذلك فالحضور الأخير في قمة بغداد يدل على عكس ذلك.أننا كعرب في حاجة ماسّة لفهم قواعد اللعبة السياسية المعقدة واكتشافها، وهي التي حكمت التأثير المتبادل بين العوامل الداخلية والخارجية، وما آلت إليه الحالة العربية، ذلك أنّ المستقبل ليس قدرًا لا يُردّ، ولا حياة مكتملة تنتظر الولادة، بل إنّ الإنسان هو الذي يصنعه، ولا يمكن للمستقبل أن يكون أفضل ممّا نحن عليه إن لم نبدأ بنقد ذاتي عقلاني وموضوعي، وصولًا إلى توصيف الواقع العربي توصيفًا دقيقًا؛ لمعرفة نقاط ضعفه لتجاوزها، ونقاط قوته إن وجدت لتعزيزها.ويبقى السؤال: كيف نعيد بناء النظام العربي؟ وكيف يمكن أن تصبح مبادرات الإصلاح المطروحة في العالم العربي فرصة سانحة لإحداث تغييرات جوهرية في الحياة العربية المعاصـرة؟إنّنا نحتاج إلى رؤية سياسية جديدة وواعية لواقعنا بوصفنا عربًا، ولفهم ماذا جرى في العالم من حولنا في الماضي، فقد اختلف الزمان، وعلينا الارتقاء إلى مستوى التحديات، بما يخدم مصالح الأمة، ويضمن حقوقها الأساسية في السيادة والحرية والاستقلال والتقدم، و لعلنا بذلك نفتح من جديد باب التاريخ، وندقّ أبواب المستقبل، ونصحو من غيبوبتنا الطويلة.بطرح من هذا النوع من الأسئلة يمكننا أن نملأ نواقص خطابات ترامب عند حديثه في الشأن العربي، ونردّ على خطاب نتنياهو وتهديداته، وإلى أن يحدث ذلك علينا أن نعوّد أنفسنا الصدق والبعد عن الأنانية والنفاق السياسي، وتغليب مصلحة الأمة والوطن على المصلحة الشخصية، حينها فقط نستطيع أن نقول: لقد بدأ العرب يدخلون إلى بوابة المستقبل، ولعل الأنظمة العربية ألزم بذلك قبل مواطنيها، ولعل الدور الأردني الدور العربي المبادر الوحيد في ذلك، ولكنه وحيد في مواجهة نزعات القطريات.إنّ إيماننا بآفاق مستقبل أمّتنا الواعد بما يحقق أمانيها ومصالحها، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان والمكان دور رئيس وأحاديّ فيها، بل يعني تفعيل عوامل التغيير الديمقراطية الحديثة والمعاصرة وإنضاجها، والبحث عن مبرراتها الموضوعية الملحّة من قلب واقعنا الراهن، الذي لم تعد الأدوات والرؤى والسياسات الرسمية العربية كلها مجدية لتغييره، وانتقلنا عبرها إلى ضياع الهدف بعد تغييب الثوابت الوطنية والقومية، وفي مثل هذا الواقع، تنضج معطيات عملية التغيير ومقدماته بصورة تراكمية، بطيئة أو متسارعة، وموضوعية أيضًا بوصفها آليات أو إرهاصات فكرية تتركز حول فكرة أو مجموعة أفكار توحيدية تعبّر عن تطلعات الشعوب العربية كلها في الديمقراطية والانعتاق والخلاص من أشكال المعاناة والحرمان و الظلم والاستغلال بأشكالها جميعها.إننا حين نتحدث عن نضوج العوامل الموضوعية، فإننا نعني بذلك، وبصورة مباشرة هذا المشهد السوداوي الذي تعيشه أمتنا، فأعاق حركة تطور شعوبنا العربية كلها ، وأبقاها أسيرة الماضي، بعيدة عن المرحلة الجديدة بمتغيراتها الهائلة في القرن الواحد والعشرين الذي نتعامل معه بمفهوم الوجود في المكان فحسب، بعيدًا عن أي دور أو تفاعل إيجابي مؤثر لنا في زمانه ومستجداته، مع أنّ الإمبريالية المعولمة وأداتها الحركة الصهيونية تضعنا أمام حالة صراع من نوع جديد تستهدف عبر محاولتها اليائسة إلغاء حقوقنا التاريخية عبر قرارات الشرعية الدولية، واقتصاد السوق المتوحش، والليبرالية الجديدة، وأيديولوجية العولمة، وإلغاء إمكانية تجدد مشروعنا القومي، وإبقائه مفككًا مشتتًا فاقدًا مقومات التحدي والنهوض والتطور.في ضوء ما تقدم؛ ليكن المستقبل القريب فرصة للحديث عن إعادة إحياء المشروع النهضوي القومي وتجديده؛ للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق؛ ليمثل الانطلاق بداية من رؤية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي بوصفها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث، وضرورات تطوره المستقبلي من جهة، وبوصفها أيضًا نقيض الواقع القائم من جهة أخرى، لكي تستطيع هذه الرؤية ممارسة دورها الحركي النقيض، وتأدية وظائفها ومهماتها التاريخية؛ لا بد لها من امتلاك الوعي بالمحددات أو المفاهيم الجوهرية الأساسية الآتية:1. أن تكون رؤية وحدوية تسعى إلى إلغاء نظام التجزئة الذي فرضته العولمة والاستعمار، وتعمل على توحيد الشعوب العربية وجدانيًا وثقافيًا أولاً بما يصنع منها قوة قادرة على الفعل التاريخي على الصعيد العربي والإنساني العام مستقبلاً.2. أن تسعى إلى استيعاب السمات الأساسية لثقافة التمدن والحداثة الأوروبية، وما تضمنته من عقلانية علمية وروح ناقدة إبداعية واستكشافية متواصلة في فضاء واسع من الحرية والديمقراطية، وإدراك واضح لموضوعية الوجودين: المادي والاجتماعي، وما يعنيه ذلك من إدراك الدور التاريخي للذات العربية، وسعيها إلى الحركة والتغيير؛ انطلاقًا من أنّ الإنسان صانع التاريخ القادر على الابتكار والتغيير في حاضره و مستقبله.3. أن تُعتَمد الديمقراطية بمضمونها ومنهجها العلمي ووعيها وإدراكها ركيزة أساسية، وقاعدة للرؤية القومية العربية الجديدة.وهذا مرتبط بتطوير الوعي وتطبيقه على واقعنا بصورة معاصرة ومتجددة، نقيضًا للواقع القائم، وضرورة تاريخية أيضًا لعملية التحرر القومي ذاتها؛ إذ إنّ جوهر تناقضاتنا الرئيسة مع الحركة الصهيونية وقوى العولمة الإمبريالية وتوابعها المحلية تقوم على الصراع من أجل استرداد الأرض والموارد والثروات المادية والبشرية العربية من قبل القوة العالمية تحت عناوين كالاستثمار وتبادل المصالح وهي في حقيقتها ىنهب ممنهج لثروات العرب؛ ولإلغاء حالة النهب والسلب والاستغلال التي تعيشها شعوبنا العربية اليوم لا بدَّ من التضامن العربي الوثيق، ومن ثَمّ فإننا نؤكد أنّ حلّ هذا الصراع لتحرير الأرض والثروات والموارد العربية لا يمكن تحقيقه بدون إنضاج الوعي؛ بتغيير بنية العلاقات الإنتاجية والاجتماعية الحالية التابعة والمتخلفة والمشوهة، إلى بنية إنتاجية تنموية حضارية شاملة تضمن توليد علاقات اجتماعية ذات طابع جماعي تعاوني، يؤكد في جوهره على حق الشعوب في ملكية هذه الثروات والموارد، وهذا يعني أنّ مرحلة جديدة استعدادية قادمة تتطلب بلورة سياسات داخلية وخارجية تقوم على:1. تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد على نحو يوازن بين اعتبارات الكفاءة الاقتصادية المطلوبة، وإعادة الاعتبار لقيم العدالة الاجتماعية؛ بتوزيع عائد التنمية على منتجيها الحقيقيين.2. العودة إلى النظام الدولي متعدد الأقطاب للموازنة بين الحاجة إلى منظومة أمنية تؤدي فيها الدول الكبرى دورًا أكبر بحكم مسؤوليتها وقدرتها على توفير إمكانات فرض السلم، ولكن وفق قواعد وضوابط متفق عليها.3. الحاجة إلى نظام ديمقراطي حقيقي، يضمن مشاركة الجميع في صنع القرار وتنفيذه، ويوفر آليات سياسية وقانونية للرقابة الفعالة على أداء مؤسسات النظام كله، ويحقق للجماهير أملها في امتلاك قرارها السياسي وسلطتها مباشرة دون وسيط ولكن بشكل متدرج ومدروس حتى لا يسيطر الخطاب الغوغائي الشعبوي الاستحواذي المرتبط بالاجندات الخارجية على المشهد.وهنا لا شك لديّ في أنّ طريق التغيير سيكون طويلًا وشاقًّا، وسيُقاوَم بالسبل والوسائل كلها قُطْريًّا وإقليميًّا ودوليًّا، من جانب القوى كلها المستفيدة من النظام القائم، الحريصة على المحافظة على مكاسبها ومواقعها، ومن ثَمّ الرافضة قيام أي بديل، كما أنني لست متأكدًا ما إذا كان القادة والزعماء السياسيون في العالم العربي، أو حتى نخبه السياسية والفكرية والثقافية الأوسع، يدركون عمق التحولات التي يمر بها النظام العالمي وخطورتها في المرحلة الراهنة، وما تمثله من تحديات للعالم العربي، أو تتيحه من فرص بالنسبة إلى إيران وتركيا والكيان الصهيوني، التي أصبحت القوى الرئيسة الثلاث في المنطقة، وتعرف تمامًا ما تريده، كما تعرف في الوقت نفسه حدود ما تستطيعه الى جانب أدوار القوى العظمى ومصالحها، ويبقى العرب الذين ربما لا يمثلون مراكز قوة حين تتوزع اللعبة بين ثلاث قوى إقليمية وقوى العالم العظمى، وهذا الواقع المرعب قد يكون خيار القوى النافذة في المنطقة، التي ترسم الخطط وتفرض تنفيذها، أمّا العالم العربي فكلّ الدلائل تشير إلى أنّه لا يعرف ماذا يريد ولا ماذا يستطيع أن يفعل، فكل دولة عربية تفهم ما يجري حولها من تحولات بطريقتها، وربما تكون لديها رؤية خاصة حول ما تطلبه من الإدارة الامريكية في المرحلة المقبلة، وكيف تسعى إلى الحصول عليه، غير أنه لا توجد رؤية عربية مشتركة لطبيعة هذه التحولات أو طبيعة التغيير الذي يمكن أن تطلبه من الإدارة الأمريكية، ولا حتى ماذا تمتلك سواء لمساعدتها على تحقيق ما تريده هي أو لعرقلة ما يخطط له الآخرون وإجهاضه لإلحاق الأذى بها أو بالعرب جميعًا، ولكنّ الفرصة على أي حال لم تضِعْ نهائيًّا بعد، وما زال هناك متسع لما يمكن إنقاذه، إلّا أنّ القوانين والتشريعات التي تقرها المؤسسات الدَّوْلية لا تعطي حججًا لحماية الضعفاء والمتخاذلين، ويكفي أن نرى الانقسامات العربية حتى نفهم أنّ المستقبل لا يسُرّ، وأنّ العرب أصبحوا أيتامًا في أرض البخلاء، فهل يحميهم المستقبل؟ وهل يُعاد الاعتبار إلى الحلم العربي بالوحدة القائمة على المشروع القومي الديمقراطي المستقل؛ ليكون طريقًا إلى التطوّر والديمقراطية اوالحداثة، وهذا ما ستجيب عنه الاعوام القادمة.