قديسات يكتب: شذرات الروابدة.. السرد الوطني ضرورة ودقة التوثيق سبيل لحماية الهوية ـ تأليف: محمد قديسات

في خضم زحمة الكلمات المتدفقة وتداخل الخطابات المتشابكة، يبرز كتاب “شذرات من تاريخ الأردن” لعبدالرؤوف الروابدة كصرخة وعي هادئة، تضع النقطة على الحرف، والحرف في موضعه الصحيح، والكلمة في موقعها الدقيق، والسطر في نصه المتكامل، ليعيد بذلك صياغة حكاية الوطن بأسلوب دقيق ومضبوط. ليس هذا العمل مجرد استدعاء لأحداث تاريخية، ولا مجموعة من الوقائع المبعثرة، بل هو مقاربة متأنية، تجردية، تحفظ للناظر نظافة الفكر، وللقارئ وضوح المعنى، وللتاريخ نفسه احترام الذات. الروابدة لم يكتف بتوثيق ذاكرة الدولة، بل حرص على أن تكون ذاكرة واعية، متماسكة، تحاكي عقل العقلاء ومكنونات القلوب المثقفة، بعيدا عن الزخرفة وصارمة في صدقهانعيش في زمن تتسابق فيه الروايات وتتزاحم فيه الخطابات، حتى أصبح الوصول إلى الحقيقة مهمة معقدة تتطلب حسن اختيار المصادر وتمحيص المعلومة. في هذا الإطار، يأتي كتاب الروابدة ليكون مرجعًا يستند إليه الباحث، ومرآة يرى فيها المثقف نفسه ووعيه وعمق وطنه. لا يعيدنا الكتاب فقط إلى الماضي، بل يعيدنا إلى جذور الوعي الوطني، حيث يبدأ من الحضارات القديمة، مرورًا بالمراحل الإسلامية، ويصل إلى تأسيس الإمارة والدولة الحديثة، من دون تهويل أو تقليل، بل بعناية فكرية تضبط المسافات بين الواقع والرؤية.الهالة التي ارتبطت بالكتاب لم تأتِ عبثًا، فهي ثمرة خبرة طويلة، وصدق في التعبير، وجرأة في الطرح، ووعي بحجم المسؤولية. ففي لحظة تعاني فيها الروايات الرسمية من التشتت، وتنتشر الروايات البديلة المغلفة بالسطحية، يأتي هذا الكتاب ليعلن بأدق الحروف أن السرد الوطني مسؤولية، وأن دقة التوثيق مفتاح لحفظ هوية عميقة الجذور لم تهتز رغم الصراعات.يمثل الكتاب حالة استثنائية في المشهد الثقافي الأردني، فهو لا يشبه كتابًا تقليديًا يعرض التاريخ كحكاية عادية، بل عمل ينسج بين السرد السياسي والتوثيق التاريخي، ويعكس تجربة فرد عاش الدولة وأحداثها عن قرب، فكان بذلك شاهدًا وليس مجرد راوٍ. هذه المكانة المتفردة جعلت منه مادة خصبة للنقاش بين المثقفين الذين وجدوا في “شذرات من تاريخ الأردن” مدخلًا لفهم أعمق للأردن المعاصر، من دون تبسيط أو تزويق، ومن دون تجزئة الأحداث عن سياقها.الكتاب يتسم بلغة رصينة ودقيقة، تراعي القارئ المثقف الباحث عن المعنى لا الزخرفة، والفهم لا التفنن اللفظي المجرد. هو خطاب يتعامل مع التاريخ كفضاء معرفي مسؤول، لا كعرض لمواقف أو مواقف مرتجلة. كما أن الروابدة، عبر المنهجية التي اختارها، يُحيل القارئ إلى قراءة متأنية، تشحذ الوعي وتنمّي الفهم السياسي والاجتماعي، ولا تترك مجالًا للتأويلات العشوائية. في طيات الكتاب، نلمس حرصًا على توثيق الأحداث بطريقة تدفع القارئ إلى الانتباه لكل تفصيل، ولكل تحول في مسار الدولة، ولكل لحظة فكرية أو سياسية، عبر تركيب متوازن بين الفهم التاريخي وتحليل السياسة الواقعية. هذا التوازن يجعل من الكتاب أكثر من مجرد سجل، بل مدخلًا لفهم متداخل الأبعاد، يستدعي نقاشًا متجددًا، ويتطلب قراءة واعية، وهو ما يثير اهتمام الفئات المثقفة التي تبحث دومًا عن نصوص ترتقي بالمشهد الفكري الوطني.لم تقتصر شهرة الكتاب وهالته على محتواه العلمي فحسب، بل كان للحدث الإعلامي المرتبط بإشهاره أثر بالغ في تعزيزه. فالحفل الذي أقيم لإطلاق الكتاب شهد حضورًا لافتًا من السياسيين والإعلاميين والمثقفين، مما أضفى عليه ثقلًا وتقديرًا خاصًا، يؤكد مكانة الروابدة كأحد أعمدة العمل الوطني وكمؤرخ عملي لمسيرة الأردن. هذا الجمع بين الشخص والكتاب أعطى العمل بعدًا إنسانيًا فريدًا، فصار الكتاب ليس مجرد وثيقة تاريخية جامدة، بل تجربة حياة، وقصة وطن تحكيها ذاكرة رجل عرف كيف يضع كل شيء في مكانه. التفاعل الواسع على منصات التواصل الاجتماعي والنقاشات التي استُحثّت عقب صدور الكتاب دليل على أن “شذرات من تاريخ الأردن” تجاوزت حدود الكتابة الأكاديمية، لتدخل فضاءات الفهم المجتمعي، فتثير الأسئلة، وتضع القضايا على الطاولة، وتفتح باب الحوار الهادئ البناء.والكتاب يتجاوز حدود التوثيق إلى فعل بناء وعي وطني مستنير، لا يغفل تعقيدات الواقع، ولا يتجاهل تحديات المستقبل. هو شهادة ناضجة تطرح سؤال الهوية والسيادة والسياسة، بكل ما تعنيه هذه المصطلحات من ثقل ومسؤولية. يذكرنا بأن تاريخ الدولة هو تاريخ قرار، وأن سرد هذا التاريخ لا يمكن أن يكون عشوائيًا، بل يحتاج إلى دقة وجرأة، وإلى صوت يستطيع أن يحكي القصة كما هي، لا كما يريدها البعض. إن “شذرات من تاريخ الأردن” هو نص للقراءة النقدية، للمناقشة العقلانية، للحوار الحضاري، وللفهم العميق الذي يميز المثقفين الباحثين عن الحقيقة بين فوضى الكلام وصخب الخطابات وهو ينم عن ادراك عميق من الروابدة لحق الاجيال المتدافعة بمعرفة تاريخ الاردن ودوره منذ نشؤ الحضارات ليشكل زادا لهم يمكنهم من بزّ من يخرجون علينا بين الحين والاخر من الناعقين والمشككين والمتنمرين والمفترين ليس على الاردن فحسب بل على الحقيقة بعينها والتاريخ اولى بهم كما اكد الروابده في حفل الاشهار.