الزعبي يتناول: التوازن في قيم المجتمع وسط التغيرات السريعة ـ بقلم: الأستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي

في زمن تتسارع فيه وتيرة التقدم التكنولوجي، وتتعاظم فيه القدرات الاقتصادية والعلمية للبشرية، فمن الطبيعي ان يرافقها تحولات اجتماعية، تهدد حصانة منظومة القيم والأخلاق، وتعرضها للتصدع. ان هذا التصدع لن يكون مقتصراً في سلوك الأفراد، بل قد يتعدى ذلك ليصبح ظاهرة مجتمعة، تتراجع فيها مفاهيم مثل الأمانة، والاحترام، والتكافل، وتتصاعد ظاهرة الكذب والاحتيال واللامبالاة، مما قد يجعلنا نشهد تحوّلًا عابراً في منظومة القيم والأخلاق، مهدداً بانهيارها، وهي التي تشكل النواة لهوية المجتمع الأخلاقية. ان انتشار ظاهرة الابتعاد عن القيم والانهيار الأخلاقي لدى بعض المجتمعات، وهي بذلك تمس جوهر وجودها، مما دفع البعض لتسميتها بظاهرة الغباء الأخلاقي، وهو المصطلح الذي لا يشير إلى ضعف في الذكاء أو قلة الفهم، بل إلى غياب الحس الإنساني، وغفلة مقصودة عن المبادئ الأخلاقية، رغم امتلاك القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ.وكوني، لست مختصاً بعلم الاجتماع، الا ان الخبرة الحياتية والاطلاع على الكثير من الدراسات، والتفاعل المستمر ولعدة عقود مع المجتمعات العالمية والعربية وكافة شرائح المجتمع الأردني، قد تسمح لي بالتحدث عن هذه الظاهرة وبكل ثقة، وهي اخذة في التوسع والانتشار التدريجي في مجتمعنا، الذي يعتبر كيان حيّ تتمازج فيه الأفكار والقيم والتقاليد مع اعمال المؤسسات المختلفة.تشير بعض الدراسات العالمية الى ان هناك الكثير من انماط الانهيار الأخلاقي، منها على سبيل المثال، تمجيد المظاهر والشهرة بغض النظر عن طريقة الوصول اليها، حيث بينت احدى الدراسات التي أجريت في عدة دول عربية الى ان ما يقارب 70% من الشباب يعتبرون “من يملك المال ناجحًا مهما كانت وسيلته”، مقابل حوالي 22% يرون أن النجاح مرتبط بالأمانة والعمل الجاد، وان التجاوزات على المنظومة التشريعية، تشكل نوعاً من أنواع الفساد، الا ان الغالبية ترى ان استخدام الطرق الملتوية بغض النظر عن تفاصيلها للوصول الى الأهداف يعتبر ذكاء اجتماعي (حيث بين تقرير الشفافية الدولية لعام 2023، أن أكثر من 60% من مواطني 20 دولة نامية يعتقدون أن الرشوة والواسطة ضرورية للحصول على خدمة عامة أساسية لهم)، وان الصمت المجتمعي على الظلم الناتج عن عمليات اغتيال بعض الشخصيات بهدف التخلص منها، وتشويه الحقائق، وبث الاشاعات، والبحث عن تبريرات لذلك، من منطق عدم التدخل (كون الامر لا يعنينا)، يعني أن بعض المؤسسات تشارك في إنتاج وانتشار هذا النوع من الظواهر، وتساعد في ايقاع مثل هذه النوع من الظلم عند التغاضي عنها، وهو الامر الذي حذر منه جلالة الملك شخصياً، حيث قال “اغتيال الشخصية ونشر المعلومات المغلوطة، هما تعد صارخ على الحياة الشخصية وعلى الأعراف والقوانين، وهذ الامر دخيل على مجتمعنا وقيمنا”، وعلى الرغم من ذلك نجد ان البعض من أصحاب القرار في مختلف مواقعهم، ما زالوا يمارسون مثل هذا الفعل، ولهم القدرة على إنتاج الخطاب المزدوج، فنرى البعض يقدم خطاباً اعلامياً يمجد القيم، وفي الوقت نفسه يمارسون العكس منه تماماً، وتساعدهم في ذلك بعض وسائل الاعلام ( والأمثلة كثيرة في بعض القطاعات، ومنها القطاع التعليمي، حيث يكون الخطر فيه اعظم).وتشير دراسات أخرى الى ان الضغط الاقتصادي والاجتماعي، وارتفاع نسبة البطالة والفقر، تؤدي الى أضعاف مناعة الأفراد النفسية والأخلاقية، وان التحولات التكنولوجية والرقمية السريعة تنقل أنماطًا قيمية غير متجذرة مجتمعياً، في ظل عدم وجود جهاز مناعي ثقافي، وان غياب القدوة (كغياب بعض النماذج الصادقة والنزيهة في بعض مواقع السلطة والوجاهة)، يرسّخ من ثقافة النفعية والتحايل لدى بعض فئات المجتمع.كما ان المرء لا يحتاج لكثير من الجهد ليرصد تراجعًا واضحًا في السلوك العام، من حيث التراجع في ثقافة العمل والإخلاص في الوظيفة العامة (لعدم اعتماد مبدأ الكفاءة لدى البعض)، وتزايد في مظاهر التنمر والتعدي على الممتلكات العامة وشيوع في بعض أنواع الخطاب السلبي، والتطاول والتشويه لدى البعض، بدلًا من الحوار بالمواجهة وإظهار الاحترام المتبادل، يرافق ذلك تراجع في المنظومة التعليمية وغيرها.ان تتغلغل ظاهرة الغباء الأخلاقي، سيؤدي الى التوسع بالابتعاد عن قاعدة القيم في بنية الكيان المجتمعي، وعندها سيتحول المجتمع تدريجياً إلى مجتمع يعاني من المرض (مع انه قد يبدو متطورًا ظاهرياً)، ويعاني من أزمة عميقة في ضميره الجمعي، وعلى الرغم بالوعي الكامل بتبعات السلوكيات اللاأخلاقية، الا ان البعض يستمر في ممارستها، بحجج الواقعية، أو النجاح، أو كل الناس تفعل ذلك، وبالتالي يكون هناك تواطؤ ضمني أو صريح من بعض القطاعات المجتمعية على قبول أو تبني مثل هذه الممارسات، إما عبر المشاركة المباشرة فيها، أو عبر الصمت أو التبرير لها باسم الخصوصية، او تبادل المصالح، (وذلك عندما يصل البعض الى قناعة بأن القيم الحقيقية لا تحترم ولا تُكافأ، بينما يُكافأ المتسلقون والمنافقون، وحسب قول البعض، اما ان تنافق او توافق او تفارق، لا بل عندما يشاهد البعض كيف يتم التخلص بطريقة او بأخرى من أصحاب المبادئ والكفاءة، واقصاء من يرفضون التملق والنفاق، لا بل قد يتم توجيه التهم لهم بهدف اغتيال شخصياتهم وتشويه صورهم امام المجتمع)، الامر الذي يشكل خطراً يهدد بتفكيك البيئة المجتمعية، ويلحق إضرار كبيرة بالمؤسسات الوطنية وبالدولة وبالإنسان وكرامته، وهي الثوابت التي يجب ان نحافظ عليها لحماية مؤسسات الدولة.ان ظهور هذه الظاهرة في الأردن في السنوات الأخيرة، كانت نتيجة إدارة عدد من الملفات بطريقة غير صحيحة، ومنها ملف التعليم (الذي يعتبر الأساس)، واذا ما توسعت اكثر، فان الامر يعتبر في غاية الخطورة، حيث قد يؤدي لظهور جيل يكون قد تربى على النفاق الاجتماعي (يسمعون كلاماً عن القيم ويشاهدون أفعالاً مناقضة لها في البيت والمدرسة وبعض وسائل الإعلام)، وفي ظل غياب الشخصيات العامة القدوة، واستبعاد الكفاءات (التي يبحث عنها جلالة الملك وولي العهد)، وغياب مبدأ الشفافية والمساءلة، ما يجعل من الغباء الأخلاقي لدى البعض خياراً مربحاً.لقد اثبتت التجارب بان المجتمعات التي تكافئ الأخلاق كالدول الاسكندنافية وغيرها تسجل أعلى معدلات الثقة المجتمعية والرفاهية، كما تبين مؤشرات مدركات الفساد (2023)، بإن الدول ذات الحوكمة الرشيدة والأخلاقيات العامة القوية حققت معدلات رفاهية وصحة وتعليم أفضل بنسبة اعلى وقد تصل احياناً الى اعلى من 60% من تلك الدول يسود في مجتمعاتها ما يسمى بالغباء الأخلاقي.ان الغباء الأخلاقي في بعض المجتمعات ليس مرضاً طارئاً، بل نتيجة لإجراءات وقرارات أو مواقف تم ممارستها، مع العلم المسبق بمعرفة عواقبها السلبية، والتي غالباً كانت مدفوعة بمصالح شخصية أو جماعية ضيقة، ومتجاهلة للمبادئ الأساسية القائمة على العدالة، والنزاهة، بحجة الذكاء أو تحقيق المنفعة، لتخلق أزمة تعمقت في بنية القيم والمصالح المجتمعية لدى البعض.ان مثل هذا الامر يفرض علينا اتخاذ الخطوات اللازمة والاستباقية لمعالجتها (قبل انتشارها، كما حصل في بعض المجتمعات العربية) عن طريق إصلاح النظام التعليمي بإدخال التفكير الأخلاقي كجزء من مناهجنا، وتطبيق المنظومة التشريعية المسؤولة عن المتابعة والمسألة، وان يكون الاعلام اعلام دولة، ويجب مراجعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية (فالعدالة جزء من المنظومة الأخلاقية، لا ترفًا منفصلًا عنها)، وتشجيع الفنون والإبداع المرتبط بالقيم (الثقافة المجتمعية تُصنع عبر الرواية والدراما والشاشة لا عبر النصوص فقط)، وتحفيز قيادات المجتمع والقيادات التنفيذية على القيام بأعمال النقد الذاتي بدل من التبرير والإنكار والخروج بتصريحات تربك المؤسسات والمجتمع (وهو الامر الذي لا يمكن ان يكون الا اذا كان لدينا في مواقع القرار التنفيذي، اشخاص من أصحاب الكفاءة والقوة في الشخصية والقادرة على اتخاذ القرار، وهو ما أشار اليه دولة فيصل الفايز في كلمته وامام جلال الملك في احتفالات المملكة بعيد الاستقلال “79” حيث قال “نحن بحاجة اليوم للرجال الرجال”)، وذلك لإنقاذ الأجيال القادمة من التفكك وتشوية المعايير، متذكرين قول مارتن لوثر كينغ “الجهل مشكلة، لكن الجهل مع الحماسة مشكلة أخطر”.وعلينا ان نتذكر، بانه حين تهتز القيم، لا تهتز الأخلاق وحدها، بل تتصدع بنية المجتمع بأكملها، وان استعادة التوازن لا تعني العودة للماضي، بل إيجاد توازن جديد بين الأصالة والمعاصرة، بين الفردية والمسؤولية، بين الحرية والواجب، فبقدر ما نعيد الاعتبار للأخلاق في حياتنا اليومية، نؤسس لمجتمع أكثر أمنًا واستقرارًا وإنسانية.