التل يستفسر: ما أهمية اعتماد نظام عنونة رقمية وطني في الأردن؟ دروس مستفادة من تجربة الهند ـ تأليف: د. قاسم التل

التل يستفسر: ما أهمية اعتماد نظام عنونة رقمية وطني في الأردن؟ دروس مستفادة من تجربة الهند ـ تأليف: د. قاسم التل


خلال الصراع الأخير بين إيران وإسرائيل، وقبله طوال فترة استهداف إسرائيل لقطاع غزة والجارة لبنان، واجه الأردن اضطرابا غير مسبوق وعلى نطاق واسع وذو أثر كبير، تمثل بتعطل و/أو انعدام دقة إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) داخل البلاد. وقد أدى ذلك إلى تبعات مباشرة وملموسة على المواطنين والقطاع التجاري على حد سواء، نتيجة الاعتماد الكبير على خرائط جوجل ومشاركة الموقع الجغرافي عبر تطبيق واتساب.كذلك واجهت المصالح التجارية، خصوصا تلك المعتمدة على الخدمات اللوجستية كالتوصيل والتجارة الإلكترونية، صعوبات كبيرة في إعادة جدولة عملياتها والوفاء بالتزاماتها التشغيلية. هذا الحدث كشف عن نقطة ضعف خطيرة، وهي: اعتماد الأردن على أنظمة تحديد المواقع الخارجية، وغياب نظام عنونة رقمية وطني ومستقل يمكن الاعتماد عليه. لو كان هناك نظام محلي ومنظم ومتاح للجميع، لتمكّنت الخدمات الأردنية من الاستمرار بكفاءة حتى في حال غياب خدمات تحديد المواقع الأجنبية.وفي ظل استمرار الأردن في مسيرته نحو التحول الرقمي، من الضروري الإقرار بأن إيجاد نظام عنونة رقمية دقيق وقوي يُعد حجر الأساس للخدمات العامة الحديثة، ولتعزيز كفاءة القطاع الخاص. وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي حققته المملكة في مجالات مثل إصدار الهوية الرقمية، وتشريعات حماية البيانات، وتحديث الإدارة العامة، فإن غياب معيار وطني موحد للعنونة الرقمية لا يزال يمثل فجوة حرجة. إن سد هذه الفجوة من شأنه أن يعزز قدرات الدولة في الحوكمة الرقمية، وتقديم الخدمات، والاستجابة الفعالة للأزمات.وتقدم تجربة الهند نموذجا جديرا بالدراسة والتطبيق في الأردن. فقد أطلقت الهند خلال السنوات الأخيرة مبادرتين رياديتين في مجال العنونة الرقمية تمزجان بين الدقة التقنية والبُعد التشريعي. الأولى هي نظام DIGIPIN (رقم العنوان البريدي الرقمي)، ويعمل هذا النظام على توليد رموز عنونة رقمية تستند إلى الإحداثيات الجغرافية، ويمكن تخزين هذه العناوين محليا أو الوصول إليها دون الحاجة لاتصال فوري بالأقمار الصناعية، مما يعني أن تحديد الموقع يمكن أن يتم حتى عند غياب إشارة GPS .أما الثانية فهي DHRUVA (المركز الرقمي للعنونة الافتراضية الفريدة)، وهي إطار تشريعي يسمح للأفراد والمؤسسات بمشاركة عناوينهم الرقمية المؤكدة بشكل آمن وبموافقة المستخدم، مما يقدم مفهوم “العنوان كخدمة” (Address-as-a-Service – AaaS) ويتيح استخدامات متعددة في قطاعات كالتجارة الإلكترونية، والرعاية الصحية، والشمول المالي، والاستجابة للحالات الطارئة، والحكومة الرقمية، ويوفر إطارا قانونيا وتكنولوجيا يسمح للمواطنين والمؤسسات بمشاركة مواقعهم الرقمية وتوثيقها دون الاعتماد على تطبيقات أجنبية، مما يعزز من سيادة الأردن الرقمية، ويمكن من بناء تطبيقات محلية للخرائط والتوصيل والملاحة تعمل بكفاءة في الظروف الاعتيادية والاستثنائية على حد سواء، ما يضمن استمرارية الخدمات الأساسية، ويقلل من الاعتماد على التكنولوجيا الخارجية التي قد تتعطل أو تُحجب في لحظات حرجة.إن تبني نموذج مشابه في الأردن يحمل فوائد جمة، منها أنه سيسمح بتوسيع نطاق التغطية الرسمية للعنونة إلى المناطق التي تفتقر حاليا إلى أسماء الشوارع أو أرقام المنازل، بما في ذلك الأحياء العشوائية، ومخيمات اللاجئين، والمناطق الريفية، وهو ما من شأنه أن يوجد شكل حضاري وموحد للعنونة على مستوى وطني، ويخفف عن كاهل الكيانات البلدية ومجالس الحكم المحلي المرهقة أساسا. كما أن هذا التوسيع سيمكن جميع الفئات من الوصول إلى الخدمات المصرفية، والرعاية الصحية، والتعليمية من خلال دمجهم في الأنظمة الوطنية دون أي تهميش وبأقل احتمالية للخطأ أو السهو. كما سيوفر النظام الجديد بنية تحتية فعّالة لتطبيق خدمات الحكومة الإلكترونية مثل الاستشارات الطبية عن بُعد، والتعليم الرقمي، والإجراءات القضائية الإلكترونية وغيرها الكثير. كما سيدعم طموحات الأردن لأن يصبح مركزا إقليميا للابتكار الرقمي والخدمات الذكية، من خلال تقوية البنية التحتية الداعمة للاقتصاد الرقمي.وبناء نظام العنونة الرقمي في الأردن وفقا لمبادئ “الخصوصية من التصميم”، بما يتماشى مع قانون حماية البيانات الأردني. ويضمن سيطرة المواطنين على بياناتهم المتعلقة بالعنونة، من حيث توقيت وطريقة وطرف المشاركة، مما يعزز من ثقة الجمهور ويدعم التكامل الآمن للعنونة الرقمية في مختلف القطاعات.كما سيكون لهذا النظام، في حال تطبيقه، تأثير كبير على التخطيط الحضري وإدارة البنية التحتية. فوجود معيار وطني موحد للعنونة سيمكن البلديات من تحسين تنفيذ أنظمة التنظيم، وإدارة نشر الخدمات العامة، وتطوير مبادرات المدن الذكية. وفي القطاع الخاص، لا سيما في مجالات الخدمات اللوجستية والتجارة الإلكترونية، فإن هذا النظام سيسهم في تقليص أوقات التوصيل، وخفض التكاليف التشغيلية، وتحسين موثوقية خدمات “الميل الأخير”. وسيفتح آفاقا أوسع أمام نمو الشركات المحلية الناشئة ويمنح الشركات الكبرى القدرة على التوسع الجغرافي بفعالية أكبر.ومن الناحية الأمنية، فإن إطلاق نظام عنونة رقمية سيعزز بشكل كبير من قدرات الأردن في الاستجابة للطوارئ والاستعداد للأزمات. ففي أوقات النزاعات أو الأوبئة أو الكوارث الطبيعية، تكون دقة الموقع عاملا حاسما في تخصيص الموارد والتدخل السريع. فمن خلال تقليل الاعتماد على أنظمة تحديد المواقع الأجنبية وربط بيانات المواقع داخل إطار وطني مستقل، يمكن للأردن أن يضمن استمرارية عمل منظومة الطوارئ بكفاءة حتى في ظروف الضغط.علاوة على ذلك، فإن تبني نظامي DIGIPIN و DHRUVA سيساعد الأردن على تجاوز المشكلات الناتجة عن تعطّل إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) أو توقف خدمات المواقع والتراسل من مزودي خدمات خارجيين مثل Google أو WhatsApp، خاصة في أوقات الأزمات أو الحروب.لتحقيق هذا الطموح، يجب على الأردن أن يتبع نهجا مرحليا ومدروسا، قد تبدأ الخطوة الأولى منه بتحديث التشريعات المرتبطة بقانون البريد لوضع تعريف قانوني ومعياري للعنوان الرقمي الوطني. ويمكن أن تتولى وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة مسؤولية إنشاء قاعدة بيانات وطنية موحدة للعنونة الرقمية. كما قد يستلزم التطبيق تنفيذ مشاريع تجريبية في مناطق حضرية وريفية على حد سواء، لاختبار قدرة النظام على التوسع والتكامل وتقبله من قبل المواطنين. ويجب أن يتم تنفيذ هذه المشاريع بالتعاون مع البلديات، والشركات التقنية الوطنية، ومزودي خدمات التوصيل لضمان عملية تطبيق عملانية وشاملة.كما يمكن دمج النظام الجديد مع البنية التحتية الرقمية القائمة مثل الهوية الرقمية، وسجلات الأراضي، وأنظمة الصحة، وأنظمة الدفع الإلكتروني. وستلعب حملات التوعية العامة دورا محوريا في تعليم المواطنين كيفية استخدام العنوان الرقمي للاستفادة من الخدمات وحماية حقوقهم الرقمية. وبالتوازي مع ذلك، يمكن للحكومة إشراك القطاع الخاص من خلال تنظيم هاكاثونات وتحديات ابتكار لتطوير تطبيقات وخدمات تعتمد على البنية التحتية الجديدة للعنونة.لقد أكدت الانقطاعات الأخيرة في خدمات الـ GPS أمرا لا يمكن إنكاره: الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية للتنقل والوصول داخل مدننا لم يعد نموذجا مستداما لتحقيق المصالح الوطنية، لذا لم يعد تطوير نظام وطني للعنونة الرقمية خيارا تكنولوجيا، بل أصبح ضرورة استراتيجية.ومن خلال استلهام نماذج DIGIPIN وDHRUVA الهندية، يمتلك الأردن فرصة ليتبوأ الريادة الإقليمية في بناء بنية تحتية رقمية ذكية وآمنة وشاملة، قد تصبح لاحقا قابلة للتصدير عربيا وربما أوسع من ذلك، كما أنها تمثل فرصة للاستثمار الريادي في الموارد البشرية الأردنية، في مجال تقني لا يزال حديثا نسبيا.في نهاية المطاف، العنوان الرقمي ليس مجرد رمز أو نقطة على الخريطة، بل هو أداة للعدالة، والفرص، ومعزز السيادة الوطنية. وعندما نضمن أن كل منزل، وكل شركة، وكل مواطن له مكان معرّف ومؤكد داخل النظام الرقمي الوطني، فإننا لا نبني فقط بلدا أكثر كفاءة، بل نصنع مستقبلا أكثر صمودا ومنعة وإنصافا للجميع.