جبارة يكتب: كأس الميثانول القاتل كمثال على الجرائم المنظمة داخل الاقتصاد الرسمي – بقلم: د. عبدالله ماجد جبارة

لا يمكن قراءة حادثة الوفيات الأخيرة الناتجة عن تناول مشروبات كحولية تحتوي على مادة الميثانول السامة على أنها مجرد خطأ صناعي أو مخالفة قانونية بل إن ما جرى يعكس بنية خفية تتقاطع فيها شبكات التهريب مع مظلات الترخيص ويتداخل فيها الاقتصاد الرسمي مع السوق غير المنظم في مشهد يكشف هشاشة منظومة الرقابة ويعرّي عمق الفجوة بين النصوص القانونية وتطبيقاتها الواقعية المشهد الذي بدأ بتسجيل تسع وفيات وعشرات الإصابات امتد بسرعة إلى تحقيقات كشفت عن تورط مصنع مرخص باستخدام مادة محظورة في صناعة الكحول وعن موظف طلب هذه المادة من أحد الموزعين وعن مستودع غير مرخص قام بتزويدها في تسلسل يكشف عن شبكة متكاملة تمارس نشاطا إجراميا تحت غطاء قانوني وبمسارات توزيع تمر من بين أيدي المؤسسات دون أن تُكتشفهذا النمط من الجرائم لا يمكن عزله عن السياق السياسي العام الذي تمر به البلاد حيث تتقاطع الأزمة الاقتصادية مع تراجع قدرة المؤسسات على الضبط الميداني ويتسرب الفساد من الهوامش إلى المتن وتصبح المنظومة التنظيمية عاجزة عن ملاحقة التشوهات التي تنشأ في سلاسل التوريد في بيئة تجارية تعاني من ثقوب تشريعية وإدارية خطيرةما جرى يعكس تجسيدا واقعيا لما يُعرف في علم الجريمة بالجريمة المنظمة حيث تتوزع الأدوار بين مستورد ومصنع وموزع وتاجر في سلسلة مترابطة تنتج موادا قاتلة داخل منظومة تبدو قانونية من الخارج لكنها مُخترقة من الداخل ويفترض أن تكون هذه الحادثة جرس إنذار بأننا أمام ظاهرة ممتدة لا حالة استثنائيةالميثانول ليس مجرد مادة سامة بل مؤشر على انهيار أدوات الرقابة المسبقة وعلى غياب قاعدة بيانات قادرة على تتبع حركة المواد الكيميائية من لحظة دخولها إلى الموانئ وحتى استهلاكها في السوق المحلي كما أن المصنع المتورط لا يعمل في فراغ بل في مناخ يسمح بتداول المواد المحظورة دون إثارة الشك أو الرقابة الفوريةإن ما يستحق التوقف هنا ليس فقط عدد الضحايا بل الطريقة التي عبرت بها هذه المادة من مسارات الاستيراد والتخزين والتصنيع والتوزيع دون أن تُكتشف وهي دلالة صريحة على وجود ثغرات بنيوية في النظام الرقابي وعلى ضرورة إعادة النظر في مفهوم الترخيص ذاته حين يصبح غطاء لممارسات قاتلة بدلا من أن يكون ضمانة للسلامة العامةلا بد من تحرك وطني صارم يتجاوز ردود الفعل التقليدية ويعيد تعريف العلاقة بين الدولة والسوق ويضع أسس رقابة جديدة لا تكتفي بالتفتيش بعد وقوع الكارثة بل تعتمد أدوات استباقية متقدمة قادرة على التصدي للجريمة المنظمة بمراحلها المختلفة من التمويل إلى الإنتاج إلى التوزيع وصولا إلى نقاط البيعما حدث هو نتيجة مباشرة لتقاطع الجشع مع الضعف المؤسسي وهو جريمة لا تسكن في زجاجة شراب بل في غياب التنسيق وتشتت المسؤوليات وتراخي منظومات الردع والمساءلة وبدون مقاربة شاملة تعترف بطبيعة هذه الجريمة كفعل مركب منظم ستبقى السوق معرضة لمزيد من الاختراقات وسيدفع المواطن الثمن من دمه وصحته ومستقبل أطفالهإن حماية الأمن الصحي لا تكون بالشعارات بل بتفكيك بنى الجريمة الاقتصادية التي تجد في الفساد الإداري والتشريعي بيئة خصبة للنمو والاستمرار ومن يعتقد أن هذه الحادثة معزولة فهو لا يرى حجم التشابكات التي تسمح بتحول مصنع مرخص إلى مصدر موت صامتالصمت الرسمي وحده لا يكفي والمحاسبة لا تكتمل دون إعادة هيكلة المفاهيم التي تُدار بها عمليات الاستيراد والتصنيع وتوزيع المواد الحساسة في الدولة وكل تأخير في معالجة هذه الفجوة لن يكون مجرد إخفاق مؤسسي بل تواطؤ غير مباشر مع منظومة قادرة على إعادة إنتاج الجريمة بصيغ مختلفة وبضحايا جدد كل مرة