العلاونة يتحدث: الحوكمة في الأردن أساس لتعزيز الثقة وتحسين الخدمات الحكومية – بقلم: عبدالله فارس العلاونة

حين نتأمل مسيرة الدولة الأردنية الحديثة، نجد أنها أولت عناية بالغة بتعزيز بنية المؤسسات العامة وتطوير أدائها بما يلبي طموحات المجتمع وتطلعاته نحو العدالة، والشفافية، والكفاءة. ومع تزايد التحديات الاقتصادية والاجتماعية في العقود الأخيرة، ظهر مفهوم الحوكمة كأداة مركزية لضمان حسن الإدارة واستدامة الموارد، ليس فقط بوصفها إطارًا إداريًا، بل ثقافة وطنية تعزز ثقة المواطن بالدولة تُعرّف الحوكمة بأنها مجموعة القواعد والعمليات والهياكل التي تُدار بها المؤسسات، بما يضمن الشفافية، والمساءلة، والمشاركة الفاعلة في اتخاذ القرار، والحد من الفساد، وتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد. وهي ليست حكرًا على القطاع الخاص، بل أصبحت محورًا في تحديث القطاع العام على مستوى العالم.في الأردن، تُرجم هذا المفهوم عمليًا من خلال عدة مبادرات ومؤسسات، كان أبرزها إنشاء هيئة النزاهة ومكافحة الفساد عام 2006، وتحديث القوانين الناظمة للرقابة المالية والإدارية، وتطوير منصات حكومية رقمية مثل “سند” التي تضم أكثر من 400 خدمة رقمية متاحة للمواطنين البيئة الأردنية وتحديات تطبيق الحوكمة رغم تقدم الأردن في بعض المؤشرات، فإن بيئته المؤسسية والتنموية تتسم بجملة من التحديات- تفاوت البنية التحتية الرقمية بين المدن والبوادي، حيث تشير تقارير وزارة الاقتصاد الرقمي إلى أن نسبة التغطية الفعلية للإنترنت في المناطق الريفية لا تتجاوز 75%.- ثقافة الإجراءات الورقية لدى بعض الموظفين الإداريين، حيث لا يزال ما يزيد عن 40% من المعاملات الحكومية يعتمد على الأرشفة التقليدية.- محدودية الوعي المجتمعي بمفاهيم الحوكمة؛ فوفق دراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية عام 2021، فإن أقل من 30% من المواطنين يدركون المعنى الشامل للحوكمة ويربطونها بجودة الخدمات.لكن هذه التحديات لم تكن عائقًا أمام الجهود الإصلاحية المستمرة، التي انعكست في خطط واستراتيجيات واضحة، مثل “رؤية التحديث الاقتصادي” و”خطة تحديث القطاع العام 2022–2033″، واللتين وضعتا مبادئ الحوكمة في صلب أهدافهماأثر الحوكمة على تطوير الخدمات الحكومية تسريع إنجاز المعاملات وتحسين الكفاءة أدى توسيع نطاق الخدمات الرقمية إلى تقليص متوسط زمن إنجاز بعض المعاملات. على سبيل المثال، أعلنت وزارة العدل عام 2023 أن إجراءات إصدار شهادة عدم محكومية الإلكترونية تستغرق أقل من 10 دقائق بعد أن كانت تستغرق يومين كاملين سابقًا.كما أظهرت بيانات دائرة الأراضي والمساحة أن التحول الإلكتروني ساهم في خفض الوقت اللازم لتسجيل معاملة نقل ملكية العقار بنسبة 35% مقارنة بعام 2019.رفع مستوى الشفافية وتعزيز ثقة المواطنتفعيل آليات الشكاوى والمساءلة أتاح للمواطن الأردني فرصة التعبير عن ملاحظاته، حيث تلقت منصة “بخدمتكم” أكثر من 72,000 شكوى واقتراح خلال عام 2023، بنسبة استجابة تجاوزت %90.وبحسب تقرير البنك الدولي لعام 2022، تحسن تصنيف الأردن في مؤشر مكافحة الفساد ليصل إلى درجة 48/100 مقارنة بـ44/100 عام 2018. ترشيد الإنفاق العام وتقليل الهدر أشار ديوان المحاسبة في تقريره الأخير إلى أن الالتزام بمعايير الرقابة والحوكمة ساعد على كشف تجاوزات مالية وإدارية وفّر معالجتها ما يزيد على 25 مليون دينار أردني في عام واحد فقط. تحسين مستوى الخدمات وتطوير الأداء المؤسسي يُعد الأردن من الدول الرائدة عربيًا في تطوير الخدمات الحكومية الرقمية، إذ تقدمت المملكة في مؤشر تطور الحكومة الإلكترونية الصادر عن الأمم المتحدة إلى المرتبة 117 عالميًا من أصل 193 دولة، مقارنة بالمرتبة 120 عام 2020.يضاف إلى ذلك اعتماد معايير مؤسسية للجودة الإدارية مثل نظام إدارة الجودة ISO 9001 في أكثر من 20 مؤسسة حكومية. عوامل نجاح الحوكمة في الأردن رغم العقبات، ساعدت عدة عوامل على تهيئة بيئة مواتية لتطبيق الحوكمة- ارتفاع المستوى التعليمي: الأردن يتميز بنسب تعليم مرتفعة، حيث تفيد بيانات وزارة التربية والتعليم بأن نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي تفوق %95.- البنية التحتية التكنولوجية: الانتشار الواسع للهواتف الذكية وخدمات الدفع الإلكتروني.- الاستقرار السياسي والاجتماعي: ما يوفر أرضية صلبة لتبني إصلاحات طويلة المدى. التحديات والفرص يظل أمام الأردن عدة تحديات منها- تطوير قدرات الموظفين وتأهيلهم لاستخدام أنظمة الحوكمة الحديثة.- توسيع التغطية الرقمية لتشمل كافة المحافظات والأرياف.- رفع الوعي المجتمعي بمفهوم الحوكمة وقيمتها.لكن هذه التحديات تحمل في طياتها فرصًا كبيرة إذا أحسن استثمارها، خاصة في ظل توجه الدولة لتسريع التحول الرقمي وتحقيق العدالة الإداريةتجارب يمكن الاستفادة منها من الدول المجاورة بنجاح مشروع الحوكمة الالكتروني ببعض الدول كالامارات العربية المتحدة ويمكن ان تكون هذه التجربة قابلة للتطبيق ببناء مشروع الحوكمة الاردني كيف يمكن للأردن تطبيق عناصر نجاح الحوكمة الإماراتية؟ تطوير رؤية وطنية طويلة المدىصياغة رؤية الأردن 2040 مثلًا، بمشاركة واسعة من الشباب والقطاع الخاص والمجتمع المدني.تحديد أهداف واضحة للحوكمة والشفافية والتميز الحكومي.تسريع التحول الرقميرقمنة جميع الخدمات الحكومية لتكون متاحة إلكترونيًا وبسهولة.إنشاء بوابة شاملة موحدة للخدمات الحكومية على غرار حكومة الإمارات الذكية.إنشاء نظام تقييم أداء حكومي شفافإطلاق برنامج وطني لقياس الأداء وتكريم الجهات المتميزة، مع نشر النتائج للرأي العام.تفعيل مؤشرات متابعة لكل وزارة ومؤسسة.تمكين الشباب والموظفين الحكوميينتأسيس أكاديمية حكومية لتدريب القيادات الحكومية وتطوير مهاراتهم.إشراك الشباب في فرق عمل تطوير السياسات والحوكمة.تعزيز بيئة الشفافية والمساءلةتحديث القوانين والأنظمة لضمان الإفصاح والرقابة.تفعيل أدوات الرقابة المجتمعية مثل منصات التبليغ عن الفساد والشكاوى.تشجيع الشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدنيفتح المجال أمام المؤسسات الأهلية والريادية لتقديم خدمات مبتكرة بالتعاون مع الحكومة.دعم المبادرات المجتمعية لتعزيز الثقة بين المواطنين والحكومة.دعم القيادة الرشيدة للإصلاح المستمرتبني قيادة الدولة لمشروع تطوير شامل للحوكمة وتحديث القطاع العام.استمرار المتابعة والدعم لضمان الاستدامةإن الحوكمة في الأردن ليست مجرد عملية تنظيمية أو نمطًا إداريًا، بل هي ثقافة جديدة تعيد بناء العلاقة بين الدولة والمواطن على أسس المشاركة والشفافية والثقة. ومع استمرار الإصلاحات، وتكثيف الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وتعزيز الوعي المجتمعي، سيظل مفهوم الحوكمة حجر الزاوية في مسيرة الأردن نحو تنمية مستدامة وخدمات حكومية متطورة، تعبر عن تطلعات شعب واعٍ ومتعلم وطامح للتقدمإن تعزيز الحوكمة ليس مجرد خيار، بل ضرورة لبناء مستقبل مزدهر يقوم على الشفافية والعدالة والتميز. وتجربة الإمارات دليل حي على أن الرؤية الواضحة والإرادة الصادقة قادرتان على تحويل الطموحات إلى إنجازات ملموسة. واليوم، يقف الأردن أمام فرصة تاريخية لتبني أفضل الممارسات وتوظيف طاقات شبابه المبدع لصناعة نموذج وطني رائد في الحوكمة الحديثة، يليق بتطلعات شعبه ويعزز مكانته بين الأممفلنعمل جميعًا معًا من أجل أردنٍ أكثر تقدّمًا وازدهارًا، يُحتذى به في الريادة والشفافية والتنمية المستدامة