شعبان يكتب: الهجرة تتكرر في غزة

شعبان يكتب: الهجرة تتكرر في غزة


مدار الساعة – كتب عمر حسن شعبان – الوطن في الهجرة كان يُفارق ليُبنى من جديد. أما في غزة، فالوطن لا يُفارق، بل يُرمم.الهجرة النبوية كانت مفارقة مؤقتة للوطن لأجل بقاء الرسالة، أما غزة، فهي مفارقة مستمرّة للوطن… داخل الوطن.خرج النبي ﷺ من مكة، وقلبه معلق بها: “والله إنك لأحب أرض الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت.”أما في غزة، فالقوم لا يُخرجون أبناءهم، بل القنابل. لا تُغلق الأبواب على الخارجين، بل تُفتح السماء للموت، والطرقات للركام.الهجرة كانت انتقالًا من مكان إلى مكان، من ضعف إلى قوة. أما غزة، فالهجرة فيها ليست بالجسد، بل بالمعنى؛الهجرة من الطمأنينة إلى القصف، من النوم إلى العراء، من المدرسة إلى المقبرة.لكن رغم كل هذا، تبقى غزة داخلة في عمق المفهوم النبوي:الارتحال من ظلم الناس إلى عدل الله،من قيد الجلاد إلى فسحة الإيمان،من فناء الحوائط إلى بقاء المبدأ.في غزة، كرامةٌ تمشي حافية، وتغزل الحياة بالخيوط البالية.لا تشتكي، لا تساوم، ولا تستجدي.غزة لا تُهاجر إلى وطن، بل تُهاجر المعاني إليها.عندما خرج النبي ﷺ من مكة، لم يكن هاربًا، بل حاملاً رسالة. لم يكن متخفيًا، بل متوكلًا. سار في ليلٍ مدلهم، يحمل النور في قلبه، حتى بزغ فجر المدينة. واليوم، تسير غزة على الدرب ذاته؛ في ظلمة الصمت العربي، وسط عتمة التواطؤ، لا تحمل سلاحًا فقط، بل تحمل إيمانًا عميقًا بأن الأرض لا يحرّرها إلا من علّق قلبه بالسماء.كما اجتمع كفار قريش في دار الندوة للتخطيط لاغتيال النبوة، تجتمع اليوم غرف العمليات في تل أبيب لتصفية المقاومة. لكن كما خذلت الأرض سراقة بن مالك وهو يطارد نبي الرحمة، تخذل السماء اليوم كل من يلاحق غزة.في الهجرة، وقف أبو بكر رضي الله عنه في الغار، والخوف يملأ قلبه، لا على نفسه بل على صاحبه. فقال النبي: “لا تحزن إن الله معنا.”ورد الصديق بعبارة الرجولة: “لا يسلّمني إليك عدو حتى أُقتل دونك.”صداقة تنحني لها الجبال، ووفاء يسكن التاريخ.واليوم، نرى في رجال الأنفاق من يشبهون أبا بكر، لا يهربون، بل يحمون. لا يخافون على أرواحهم، بل على المبدأ. وجوههم مغبرة، أياديهم مشققة، وقلوبهم مملوءة بنور الله. هم أبناء الغار الجديد، الذين يصنعون من التراب مجدًا، ويقفون في وجه سراقة العصر: الطائرات، الجيوش، والعملاء.خرج سراقة قديمًا يطارد الرسول طمعًا في الجائزة، فسقطت فرسه مرة، ومرتين، وثلاثًا، ليعلو الوعد: “كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟” واليوم، تسقط سراقة الطائرات بنفس الطريقة، لأن من يحرسهم الوعد لا يُخذلون.ليست الهجرة فرارًا، بل بداية حضارة. في المدينة، بدأ النبي ﷺ ببناء المسجد: قبلة الروح ومحراب القرار. ثم أقام السوق، ليقطع يد الاحتكار اليهودي، ويقيم ميزان العدل. ثم قامت الدولة: بمواطنة عادلة، وتديّن متزن، وعدالة تخرج من رحم العبادة.وفي غزة، يُعاد المشهد ذاته:كل بيت يُهدم، يُقابله بناء مسجد لا يعلو فيه إلا صوت “الله أكبر”.كل سوق يُقصف، يُقابله اقتصاد حرّ، نقيّ من جشع المال الصهيوني.كل مؤسسة تُدمّر، تُقابلها مؤسسات تنشأ على أساس من الإيمان والكرامة.كما احتضنت المدينة المنوّرة رسول الله وصحبه، ستحتضن غزة أمتها من جديد. ستخرج من تحت الركام دولة لا تشبه حدود سايكس بيكو، بل تشبه حدود العدل النبوي. ستُبنى من دماء المرابطين، من صدور النساء، من أقدام الأطفال الذين يحفظون فلسطين أكثر مما يحفظون أسماءهم.فكل عام هجري وأنتِ يا غزة تقتربين من النصر،وكل قصف وأنتِ أشد عزيمة،وكل نكسة وأنتِ أصدق وعدًا بأنكِ…الأرض التي لا تُهاجر، ولكن تُهاجر إليها المعاني…. وكما خرج النبي من مكة محاصرًا، ملاحقًا، مثخنًا بالجراح،عاد إليها بعد أعوام، يمشي فوق ترابها مرفوع الرأس، يدخلها من أبوابها كلها، ويعفو.لم يكن في المدينة آنذاك ركام، بل قلوب فتحت له أبوابها، فأسس دولة.وفي غزة اليوم، لا أبواب مفتوحة، لكن القلوب كلها هناك، تركع على العتبة.غزة، خارجة من الحصار كما خرجت الهجرة من الغار.تتشبث بترابها كما تشبث الصديق بالركب في ظلام الغار.لا تطلب نصراً فوريًّا، بل وعدًا لا يُكسر.وإن بدا الطريق طويلًا، فإن النهايات مكتوبة عند الله،والقصة لا تنتهي عند القصف، بل عند السجود على الأرض المحررة.غزة ليست تسير على خُطى الهجرة…غزة هي الهجرة، بتمام نُورها، وبشارة نصرها، وحتمية عودتها.كما انتصرت الهجرة… ستنتصر غزة.ليس لأن موازين القوى تميل لها،بل لأن السماء وعدت، والوعد لا يُخذل.