البترا: مركز السياحة الثقافية في الأردن وأمل الملايين من الزوار العالميين – بقلم: محمود عطالله الفرجات

البترا: مركز السياحة الثقافية في الأردن وأمل الملايين من الزوار العالميين – بقلم: محمود عطالله الفرجات


في عمق الجنوب الأردني، وتحديدًا في قلب الصحراء الوردية، تقف مدينة البترا، ليس فقط كأعجوبة معمارية نحتها الأنباط قبل أكثر من ألفي عام، بل كمحور رئيسي للهوية السياحية الأردنية، ورافد اقتصادي لم يُستغل بعد بكامل إمكانياته. هذه المدينة التي نُقشت على قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 1985، تُعد الواجهة الأولى والأكثر جذبًا في الأردن، لما تحمله من عمق حضاري، وأهمية ثقافية، وجاذبية سياحية تتجاوز الحدود الجغرافية.الاعتماد على السياحة الثقافيةالبترا ليست وجهة ترفيهية تقليدية، بل تمثل نموذجًا نادرًا للسياحة الثقافية الخالصة، حيث يتجاوز الزائر رحلة التصوير والتجوال، ليغوص في رحلة اكتشاف لحضارة غامضة، وعمق إنساني ضارب في القدم. تشير التقديرات إلى أن ما يزيد عن 98% من زوار البترا هم من السياح الأجانب، مما يعكس اعتماد المدينة شبه الكامل على السياحة الدولية، وخصوصًا تلك القادمة بدوافع ثقافية وتاريخية.الأزمات المتكررة وانعكاسها على البترامنذ بداية التسعينات، تلقت البترا ضربات موجعة من سلسلة أزمات سياسية وأمنية إقليمية ودولية، أثرت بشكل مباشر على حجم الحركة السياحية الوافدة. بدءًا من حرب الخليج الأولى عام 1991، ثم هجمات 11 سبتمبر 2001، وما تلاها من تراجع في ثقة الأسواق الغربية بالسفر إلى المنطقة، مرورًا بحرب العراق 2003، والربيع العربي 2011، وانتهاءً بجائحة كورونا 2020، وأخيرًا الحرب الجارية في غزة والتوتر الإقليمي مع إيران. كل واحدة من هذه المحطات شكلت عائقًا أمام استدامة النمو السياحي في البترا، وأوقفت منحنى الصعود الذي كان من الممكن أن يصل إلى ذروته اليوم.سيناريو بديل: ماذا لو لم تقع الأزمات؟بالرجوع إلى أرقام العام الذهبي 2019، فقد استقبلت البترا ما يزيد عن 1.135 مليون زائر، وهو أعلى رقم تم تسجيله حتى الآن. وبحسب دراسات غير منشورة، فإن معدل النمو السنوي المركب الذي كان يمكن للبترا تحقيقه في حال استمرت وتيرة النمو بلا أزمات كان يقترب من 12% سنويًا، ما يعني أن المدينة كان بإمكانها – نظريًا – أن تستقبل أكثر من 5 ملايين سائح سنويًا بحلول عام 2025، لو لم تتعثر بفعل الأزمات.هذا الرقم لم يكن بعيد المنال؛ إذ أن البترا تحتل موقعًا دائمًا على قوائم “أماكن يجب زيارتها قبل أن تموت” في عشرات المجلات والمواقع العالمية، ما يجعلها في موضع “قائمة التمني” لكثير من سكان العالم، خصوصًا في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية.الأثر الاقتصادي الكبيريُقدّر أن كل سائح يزور البترا ينفق في المتوسط بين 200 إلى 350 دينارًا أردنيًا خلال فترة إقامته، ما بين رسوم دخول، ومبيت، ومواصلات، وتسوّق، وخدمات سياحية. ولو افترضنا تحقيق حلم الوصول إلى 5 ملايين زائر، فإن العائد المباشر سيكون بحدود 1.25 مليار دينار أردني سنويًا على أقل تقدير، دون احتساب العائدات غير المباشرة مثل الضرائب، والتوظيف، وتحفيز قطاع الخدمات والنقل والتجارة.وقد أظهرت بيانات وزارة السياحة الأردنية أن إيرادات السياحة الكلية للأردن بلغت حوالي 5.2 مليار دولار في عام 2023، وكان نصيب البترا منها يقارب 12%، رغم أنها استقبلت فقط أقل من ربع مليون زائر خلال الربع الأخير من العام بسبب ظروف الحرب. هذا يعني أن تعزيز استقرار هذه الوجهة ورفع أعداد زوارها سيؤدي بالضرورة إلى نمو متوازن في الناتج المحلي الإجمالي الأردني، وسيسهم في تقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.في الختامالبترا ليست فقط موقعًا أثريًا، بل هي ركيزة وطنية اقتصادية، وكنز استراتيجي بحاجة إلى حاضنة أوسع وسياسات تضمن استقرارها وترويجها المستدام. إن الرهان على السياحة الثقافية، رغم كل التحديات، يبقى رهانًا رابحًا، والبترا هي جوهر هذا الرهان.