بطاح يكتب: عن الخداع الاستراتيجي والاختراقات الأمنية: دروس لا تُنسى! ـ تأليف: د. أحمد بطاح

من المعروف أن الحروب لا تعتمد على الأسلحة فقط، بل تعتمد أيضاً على القدرة على الخداع وتحقيق المفاجأة ضد الخصم، الأمر الذي يمكن أن يربكه ويَضْمن هزيمته في المحصلة. وإذا عُدنا إلى الخمسين سنة الأخيرة فإنّنا نستطيع أن نرصد أمثلة جلية على أهمية الخداع الإستراتيجي وما قد يسبقه أو يرافقه من اختراق أمني وتحقيقه لنتائج مهمة في مصير الحروب، ولعلّ من أشهر هذه الأمثلة: أولاً: حرب “أكتوبر” 1973:استطاعت مصر وسوريا تحقيق “خداع استراتيجي” لإسرائيل في هذه الحرب، فبعد أن بنت إسرائيل “خط بارليف” الشهير وأرفقته بحزام من النار يمكن أن ينفجر في وجه المهاجمين فوق المانع المائي الهائل (قناة السويس) ظنت أن الجيش المصري لن يستطيع “العبور” إلّا إذا خسر (60,000) قتيل على الأقل، وباستخدام مصر للخداع الاستراتيجي بأشكال عديدة أصبحت معروفة ومُوثّقة في الأكاديميات العسكرية استطاع الجيش المصري عبور قناة السويس في السادس من أكتوبر 1973 مُحقّقاً عنصر مفاجأة لإسرائيل اضطرتها خوفاً من الهزيمة المؤكدة إلى تجهيز أسلحتها النووية (تملك إسرائيل أكثر من 200 رأس نووي رغم عدم اعترافها رسمياً بذلك) كما هرعت رئيسة وزرائها “جولدامائير” إلى الاستنجاد بالولايات المتحدة التي زودتها بكل ما يلزم لتجاوز “عنصر المفاجأة” واسترداد الثقة بالنفس، وبغض النظر عن نتائج الحرب النهائية المعروفة، فإنّ أحداً لا يستطيع أن ينكر أنّ مصر مارست (بالتعاون مع سوريا، شريكتها في المعركة) “خداعاً استراتيجياً” ناجحاً بكل المقاييس، الأمر الذي مكّنها من عبور قناة السويس بنجاح وتحقيق نتائج أولية مُهمّة في مسار الحرب.ثانياً: أحداث السابع من أكتوبر 2023:حيث استطاعت المقاومة الفلسطينية بزعامة حماس تحقيق “خداع استراتيجي” ناجح لإسرائيل (المشهورة بأجهزة استخباراتها العديدة والفعالة)، الأمر الذي مكّنها (أيّ المقاومة الفلسطينية) من الاستيلاء على غلاف غزة، وتدمير مستوطناته، ومن “تحييد” فرقة غزة المُكلّفة بحماية مستعمرات “الغلاف”، وذلك فضلاً عن أسر العديد من الإسرائيليين، وهو ما تُفَاوِض عليه المقاومة حتى الآن، وبغض النظر عن نتائج المعركة التي ما زالت دائرة حتى الآن فإنّ أحداً لا يستطيع أن ينكر نجاح المقاومة الفلسطينية في خداع الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وهو ما لم يكن وارداً في حسابات الجانب الإسرائيلي، ولذا فليس غريباً أنّ النُخب الإسرائيلية، والرأي العام الإسرائيلي ما زالوا غير مصدقين لما حدث وما زالوا يطالبون بالتحقيق فيما جرى لفهمه، واستيعاب الدروس والعِبر منه.ثالثاً: المواجهة الإسرائيلية مع حزب الله:بعد يوم واحد من بداية أحداث السابع من أكتوبر بدأ حزب الله معركة “الإسناد” للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وبعد عدة أشهر تمكّنت إسرائيل من شل حزب الله وضربه بسبب قدرتها على ممارسة “الخداع الاستراتيجي” وتحقيق اختراق أمني غير مسبوق ضده، الأمر الذي مكّنها من اغتيال الصف الأول من قياداته (بما في ذلك زعيمه الشيخ حسن نصر الله)، وقتل عدد كبير من كوادره فيما عُرف “بحرب البيجر”، والواقع يشير إلى أنّ إسرائيل بدأت تُعد للمعركة مع حزب الله مع انتهاء آخر مواجهة معه في عام 2006 حيث جمعت المعلومات عن أهم قياداته، وأسلحته، ومواقعه، الأمر الذي أتاح لها مع احتدام المواجهة تحييده وإجباره على النكوص إلى شمال الليطاني وفقاً لاتفاق 1701 الذي رعته الولايات المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة. إنّ الحقيقة المؤكدة هي أنّ إسرائيل لم تكن لتحقق ما حققته في مواجهتها مع حزب الله لولا جهدها الاستخباري وتوظيفه بنجاح.رابعاً: أوكرانيا “وشبكة العنكبوت” ضد روسيا.في إطار الصراع المرير بين روسيا وأوكرانيا نجحت روسيا في السيطرة على ما يقارب (20%) من أراضي أوكرانيا، ولكن أوكرانيا نجحت أيضاً في تحقيق بعض المكاسب التي قد لا تكون استراتيجية ولكنها مهمة وتُعتبر مثالاً موفقاً على “الخداع الاستراتيجي” الذي يمكن أن تحققه دولة ضد دولة تحاربها، فقد فاجأت أوكرانيا روسيا بمهاجمتها لمقاطعة “كورسك” الروسية (بمساحة 1000 كم2) واحتلالها، ورغم أن روسيا استردتها أخيراً، إلّا أنّ ذلك لا يُقلّل من أهمية عنصر المفاجأة الذي استخدمته أوكرانيا، وقد تبع ذلك “خداع استراتيجي” مُهم ومُوفّق استخدمته أوكرانيا ضد روسيا وهو ما عُرف بعملية “شبكة العنكبوت” الذي قامت في إطارها أوكرانيا بالتسلل إلى الأراضي الروسية، وإنشاء قواعد مؤقتة ومتحركة تحتوي على مُسيّرات انطلقت في لحظة ما لمهاجمة وتدمير مهاجع بعض “القاذفات الاستراتيجية الروسية”، الأمر الذي تمخض عن خسارة 3 – 7 مليار دولار كثمن لهذه القاذفات. إنّ هذه العملية الاستخباراتية في الأساس تحمل دلالة مهمة على أهمية “الخداع الإستراتيجي” و”الخرق الأمني” الذي يمكن أن يتسبب في خسائر فادحة للحرب حتى وإن لم يؤدِ إلى كسبها كما هو واضح في حالة النزاع الروسي الأوكراني.خامساً: إسرائيل و”الخداع الاستراتيجي” لإيران:رغم أن المواجهة الإسرائيلية الإيرانية كانت واردة على الدوام، ورغم أن كلاً منهما كان يعلن أنه على استعداد لمواجهة الطرف الآخر، إلّا أنّ إسرائيل نجحت في عملية “الخداع الاستراتيجي” لإيران عند مهاجمتها في 13/06/2025، الأمر الذي مكنها من اغتيال الصف الأول من قادتها العسكريين (رئيس الأركان، قائد الحرس الثوري، قائد سلاح الجو فضائي…) وبعض كبار علمائها النوويين، والواقع أن إسرائيل بتواطؤ من الولايات المتحدة أوهمت إيران بأنها لن تبدأ بالحرب ما دام أن المفاوضات مستمرة (كانت الجولة السادسة للمفاوضات مقررة في يوم الأحد 15/06/2025)، وبالإضافة إلى ذلك فقد استخدمت إسرائيل أساليب وتقنيات متعددة لتحقيق اختراقها الأمني الكبير لإيران كنصب مواقع أسلحة مؤقتة (كالمسيرات) في أماكن قريبة من أهدافها، والحصول على معلومات مؤكدة عن مواقع كبار القادة والعلماء، وذلك فضلاً عن مواقع البرنامج النووي الإيراني.إنّ مما لا شك فيه أن الضربة الإسرائيلية الأولى لإيران كانت ناجحة، بل ومُبهرة (كما وصفتها المصادر الإسرائيلية) لأنها كانت ثمرة جهد استخباري مُميز (بشري وتقني) تمخض عن تحقيق “خداع استراتيجي” مُهم، وعن مفاجأة كان لها ما بعدها. صحيح أن الحرب ما زالت تتوالى فصولاً، ولكن لا أحد يستطيع أن يُغفل حقيقة وأهمية “الخداع الاستراتيجي” والاختراق الأمني الذي بدأت به إسرائيل الحرب.