السعايده يكتب: الوعي والسيادة: التحديات الحقيقية للأردن في ضوء الدعوات الإيرانية الإسرائيلية للتهدئة ـ بقلم: د. عامر عبد الرؤوف السعايده

السعايده يكتب: الوعي والسيادة: التحديات الحقيقية للأردن في ضوء الدعوات الإيرانية الإسرائيلية للتهدئة ـ بقلم: د. عامر عبد الرؤوف السعايده


في ضوء التهدئة النسبية التي شهدتها المنطقة بين إيران وإسرائيل، ظهرت الحاجة بإلحاح على الساحة الأردنية لإعادة تقييم عميقة للجبهة الداخلية، بعد أن كشفت هذه الأزمة عن بروز مواقف متناقضة، وانقسامات أيديولوجية، وأصوات داخلية تفتقر إلى الانضباط الوطني، مما أضعف مناعة الصف الأردني في لحظة إقليمية بالغة الحساسية.من اللافت أنّ بعض الأصوات في الداخل الأردني تعاملت مع هذه الأزمة بازدواجية مقلقة – مواقف تكال بمكيالين، حيث تم توجيه سهام النقد للدولة الأردنية على خلفية موقفها السيادي الرافض لاختراق مجالها الجوي من قبل الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية، وهو موقف بديهي وحق أصيل لأي دولة ذات سيادة، خصوصًا عندما تكون مهددة بشكل مباشر. ومع ذلك، تم تصوير هذا الموقف وكأنه اصطفاف منحاز لأحد طرفي النزاع وهو اتهام باطل لا أساس له على الإطلاق، في وقت صمتت فيه هذه الأصوات نفسها تجاه انتهاكات إيرانية موثقة طالت أراضي وأجواء وسيادة دول عربية أخرى وهي قطر والعراق. هذه الانتقائية المبتذلة تكشف عن خلل في المنهج وانحراف في البوصلة الوطنية، وانحياز أيديولوجي لا يستند إلى منطق ولا إلى مصلحة وطنية، حيث أنّ هذه الفئة غضت الطرف عن استنكار خطر اختراق الصواريخ الطائرات المسيرة للأجواء الأردنية، وكان أخرها سقوط الطائرة المسيرة في منطقة أم أذينة وكادت أن تودي بحياة مواطنين أردنيين أبرياء، وهو ما يكشف انتقائية خطيرة في قراءة الواقع، وانحيازًا أيديولوجيًا يعمي عن الحقيقة.الأخطر من ذلك هو ما تمارسه بعض التيارات الأيديولوجية من تعبئة ممنهجة لفئات من الناس البسطاء للتعاطف مع إيران، مستغلة في ذلك القضية الفلسطينية، وكأنها حكر على مشروع واحد دون غيره ة، وهذا يُشكّل تلاعبًا بالمشاعر، وتسليعًا للقضية، وتزييفًا لوعي الأجيال. فيتم توظيف معاناة الفلسطينيين في غزة والضفة ضمن خطاب شعاراتي، لا يعكس حرصًا حقيقيًا على الحقوق، بل يوظف المأساة لتبرير تغلغل مشروع سياسي وأيدولوجي يتعارض في جوهره مع أمن الأردن واستقراره.وقد تمادى هذا التيار إلى حد الترويج لمعادلة خطيرة مفادها: “من ليس مع إيران فهو صهيوني”، وهي معادلة تختزل الناس والآراء، وتخترق النوايا، وتفترض لنفسها وصاية مطلقة على الوطنية والمقاومة، وكأنها تحتكر الحقيقة وتقرأ ضمائر الناس. مثل هذا الخطاب لا يخدم فلسطين، ولا يخدم الأردن، بل يغذي الاستقطاب والتفكك الداخلي، ويفتح الأبواب أمام اختراقات فكرية تمهّد للتشظي الاجتماعي والسياسي.وعلى الأرض، تتضح المعادلة بصورة أوضح: فكلّ من إيران وإسرائيل يمتلك مشروعًا توسعيًا في المنطقة، وإن اختلفت الشعارات والوسائل. فكلا الطرفين يرى في الأردن حاجزًا استراتيجيًا يجب اختراقه أو تحييده، وتضعفه بعض أذرعهما فعلًا، سواء من خلال الضغط الأمني على الحدود، أو عبر بث الخطاب المشوش في الداخل. وبالتالي فإن إضعاف الأردن ليس هدفًا ثانويًا لدى هذين المشروعين، بل جزء أصيل من خرائط النفوذ الإقليمي.في مواجهة هذه التحديات، برزت حكمة القيادة الأردنية ممثلة بجلالة الملك عبد الله الثاني، الذي لعب دورًا مركزيًا في الحفاظ على توازن الموقف الإقليمي والدفاع عن القضية الفلسطينية بمنطق واقعي وشجاع. وقد كان خطابه أمام البرلمان الأوروبي في 17 حزيران شاهدًا على ذلك، حيث قدّم موقفًا أخلاقيًا وإنسانيًا، وفضح فيه جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق أهالي غزة، مؤكدًا أن فلسطين تبقى لبّ الصراع، وأن غياب العدالة يولّد التطرف والعنف. هذا الخطاب لم يكن تجميلًا ديبلوماسيًا، بل صوتًا أخلاقيًا نابعًا من مسؤولية عربية عميقة، عبّر عن الأردن كما يجب أن يُفهم: دولة ترفض المزايدات، وتحمل ثوابتها في العلن والسر، دون أن ترتمي في حضن أي محور.أمام هذا المشهد، تبقى الجبهة الداخلية هي الأساس، وهي الحصن الذي يجب حمايته بكل الوسائل الممكنة. فما يهدد الأردن اليوم ليس فقط الصواريخ أو المسيّرات، بل الاختراق الفكري، والانزلاق وراء شعارات غير وطنية، والتشكيك في مؤسسات الدولة، والارتهان لخطابات مشبوهة. المطلوب هو ترسيخ وعي وطني قائم على الإدراك والمعرفة لا على العاطفة، وعلى المصالح العليا لا على الولاءات العابرة. فكل فكرة مشوشة، وكل ولاء مزدوج، وكل صوت يُجمّل مشروعًا خارجيًا على حساب المصلحة الوطنية، هو تهديد صامت لا يقل خطورة عن أي اعتداء خارجي.إنّ المرحلة تتطلب الوضوح، والحسم، ورفع مستوى الوعي السياسي والمجتمعي، والتصدي بروح وطنية لكل ما من شأنه أن يخلخل الاستقرار الداخلي، أو يضعف مناعة الدولة. فالأردن، بوعيه، وقيادته، وتماسكه، قادر على تجاوز العواصف، شرط أن تُغلق الثغرات من الداخل أولأً، وتعرية تلك الفئات المؤدلجة.