من يمتلك القوة الأكبر: الطائرات أم الصواريخ؟ الهيمنة السيبرانية أم التحالفات بين طهران وتل أبيب؟

مدار الساعة – كتب د. زيد إحسان الخوالدة: لا شك أن السابع من أكتوبر شكّل الشرارة التي حرّكت المشهد الإقليمي برمّته، وأعادت تفعيل أدوات الردع الإيرانية في أكثر من ساحة. ورغم أن بعض هذه الأذرع، كحزب الله وفصائل العراق واليمن، ما زالت تمثل أوراق ضغط بيد طهران، فإن الحاضنة الشعبية لها لم تعد كما كانت، وقد تآكلت بفعل الاستنزاف السياسي والطائفي، باستثناء الساحة السورية التي باتت محكومة بتوازنات جديدة.ومع ذلك، تظل هذه الأذرع جزءًا من استراتيجية “الدفاع بالهجوم” التي تنتهجها إيران، حيث تُبقي على أدواتها نشطة تحت الطلب، وتدير بها المواجهة دون الانخراط المباشر، وهو ما يصعّب على خصومها تحقيق حسم واضح أو تكلفة محدودة.ما يجري بين إيران وإسرائيل كسر جميع قواعد الاشتباك الكلاسيكية، وخلق مشهد دولي مضطرب يعيد تشكيل خريطة الأمن الإقليمي والدولي.أولاً: حرب غير تقليدية بامتيازرغم أن الحرب الروسية – الأوكرانية حافظت جزئيًا على طابعها التقليدي، من خلال استخدام الدبابات والإنزالات والعمليات الخاصة، إلا أن الحرب الإيرانية – الإسرائيلية الحالية اختارت طريقًا مغايرًا. إنها حرب خفية في ظاهرها، مكشوفة في آثارها، سيبرانية في أدواتها، نفسية في عمقها، واستراتيجية في أهدافها.منذ اللحظات الأولى، كنا أمام عملية مباغتة مزدوجة:فإسرائيل لم تكن تتوقع هذا الحجم من الرد الصاروخي المنظم،وإيران بدت وكأنها كانت تُجري مناورات عسكرية، فإذا بها تتحول فجأة إلى فاعل عسكري مباشر.ولعلّ المفارقة الكبرى أن الدفاع الجوي الإيراني بدا وكأنه تم تعطيله أو تجاوزه لحظيًا، ليس فقط من خلال الضربات الجوية، بل عبر الهجمات السيبرانية المكثفة، والتي يعتقد بأنها حيّدت مراكز القيادة والسيطرة مؤقتًا، بما يشير إلى نقلة نوعية في حرب الشبكات.ثانيًا: من الزخم الكمي إلى الانتقاء النوعيالرد الإيراني تطوّر بشكل ملحوظ من موجات صاروخية عشوائية كثيفة إلى ضربات نوعية منتقاة. بات واضحًا أن طهران لا تسعى فقط إلى الرد، بل إلى اختبار قدرات الردع لديها تدريجيًا، واستخدام كل مرة منظومات أكثر تطورًا، مما يدل على أن الرد الإيراني مرن ومتحرك ومتصاعد.هذا التحول يحمل بصمات مدرسة عسكرية عميقة الفهم لمفهوم “التدرج التصاعدي في الردع”، حيث تُستخدم الضربات لإرسال رسائل متعددة الاتجاهات:إلى إسرائيل: لسنا عاجزين عن الرد.إلى أمريكا: لن نتجاوز الخط الأحمر… لكننا قريبون منه.إلى الداخل الإيراني: نمتلك أدوات القوة والهيبة.ثالثًا: المشهد الاستراتيجي… تعقيد بالغ وخرائط متعددةالتصريحات الأمريكية – كما هو معتاد – متضاربة ومتحركة، تعكس حالة من الارتباك الاستراتيجي. واشنطن تحاول الموازنة بين دعم “الحليف التقليدي” إسرائيل، وعدم الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة، خصوصًا في ظل التحديات في البحر الأحمر، وشرق آسيا، وأوكرانيا.من الناحية الفنية:تشير بعض التقارير الغربية إلى أن إيران على بعد أسبوعين من امتلاك القدرة النووية الكاملة، وهي معلومة تدفع صانعي القرار الغربيين إلى دراسة عدة سيناريوهات للتعامل مع الملف النووي، تتراوح بين:1. ضربات جراحية عبر طائرات B-2 (رغم محدودية فعاليتها دون شل الدفاعات الإيرانية بالكامل).2. تصعيد عقوبات خانقة جدًا.3. تحريك الحلفاء الإقليميين للضغط الاستراتيجي.4. أو سيناريو التعديل الناعم للنظام الإيراني من الداخل.أما من جهة إسرائيل، فهي تدرك أن الضربات الجوية الخاطفة التي تقوم بها، وإن كانت فعالة من حيث التكتيك، إلا أنها لا تُحدث حسمًا استراتيجيًا. فامتلاك المجال الجوي الإيراني أمر لم يتحقق، والدفاعات الإيرانية رغم تواضعها مقارنة بخصومها، إلا أنها مبنية على شبكة مرنة من الرادارات والصواريخ متعددة المدى والمسؤوليات. لأن إسرائيل تضرب إيران على قاعدة اضرب واهرب.رابعًا: الصين، روسيا، وإيران… مشهد دولي متشابكطرح سؤال مهم: لماذا لا تمتلك إيران طائرات صينية حديثة؟الجواب يحمل أبعادًا دبلوماسية دقيقة: الصين تتفادى إزعاج الجيران العرب، وتسعى لموازنة علاقتها بين طهران والرياض. ولذلك، تكتفي بدعم لوجستي وتقني غير مباشر، وتُبقي باب التفاهم مفتوحًا مع الخليج.أما روسيا، فهي منهمكة في معركتها الأوكرانية، لكنها لا تنكر الحاجة إلى الدعم الإيراني في مجال المسيّرات والسلاح الرخيص والفعال. ولهذا، فإن موسكو لا تقطع شعرة معاوية مع طهران، لكنها تُفضل أن تبقى المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية في إطار مضبوط لا يحرجها أمام أمريكا.خامسًا: الهدف الإيراني والغربي… من ينتصر في معركة الوقت؟إيران تريد تهدئة سريعة تكتيكية، تتيح لها العودة للملف النووي دون تنازلات.الولايات المتحدة والغرب يريدون “تقليم أجنحة” النظام الإيراني، وتحييده، أو في الحد الأدنى منعه من أن يصبح قوة نووية قادرة.الاستراتيجية الغربية تسعى للحفاظ على “التفوق النووي الإسرائيلي”، وجعل طهران في دائرة الابتزاز الدائم، تمامًا كما هو الحال مع كوريا الشمالية.ختامًا: دروس الحرب العراقية – الإيرانية لا تزال حاضرةالشعوب تنسى، لكن العسكر لا ينسى.من خَبِر المعركة ضد إيران في ثمانينات القرن الماضي، يدرك تمامًا أن الإيرانيين ليسوا سهلين إذا دافعوا عن أرضهم، وأنهم يملكون قدرة غريبة على الصبر والتكيّف والمناورة.قد نختلف معهم سياسيًا وأخلاقيًا في ملفات عديدة – من الحرب الطائفية إلى التدخلات في دول الجوار – لكن هذا لا ينفي أن التعامل مع طهران يجب أن يكون بميزان العقل، لا باندفاع الغضب.يبقى أن نقرأ التصريحات القادمة من البيت الأبيض وتل أبيب وبكين وموسكو بمنظار مركب، لا بمعزل عن السياق الأوسع الذي تتشكل فيه خريطة القوة العالمية الجديدة.