بطاح يناقش: أيهما أهم للقضية الفلسطينية: النضال السياسي أم المقاومة المسلحة؟ ـ تأليف: د. أحمد بطاح

بطاح يناقش: أيهما أهم للقضية الفلسطينية: النضال السياسي أم المقاومة المسلحة؟ ـ تأليف: د. أحمد بطاح


إنّ درس التاريخ الذي يجب تعلمه فيما يتعلق بقضايا الشعوب هو أنه لكسب قضية أيّ شعب فلا بدّ أن يترافق النضال السياسي مع الكفاح المسلح، فالمستعمرون والغزاة لا يمنحون الشعوب حريتها لمجرد أنها تريد ذلك، وإنما يمنحونها حريتها حين يضطرون إلى ذلك بفعل المقاومة التي قد تأخذ شكلاً مسلحاً أحياناً وقد تأخذ شكلاً سياسياً أحياناً أخرى، وقد يكونانِ متزامنينِ في أحيانٍ ثالثة، وإذا رجعنا إلى التاريخ القريب فإنّنا نجد أنّ الشعب الجزائري، مثلاً لم ينل حريته من المستعمر الفرنسي إلا بعد كفاحٍ مضنٍ تكلّل بثورة مسلحة ( 1954-1962) دفعت أكثر من مليون شهيد، كما نجد أنّ الشعب الفيتنامي لم ينل حريته إلّا بعد كفاح سياسي تُوّج بمواجهة مسلحة رهيبة مع قوتين إمبرياليتين هما: الفرنسية والأمريكية على التوالي.إنّ قضية الشعب الفلسطيني ليست بِدَعاً بين قضايا الشعوب ولعلّها أقرب ما تكون إلى قضية الشعب الجزائري الذي واجه استعماراً استيطانياً إحلالياً كان يهدف إلى محو هوية الشعب الجزائري “وفرسنة” الجزائر في كل مجال تماماً كما يحدث الآن في فلسطين حيث تحاول إسرائيل محو اسم “فلسطين” من الخارطة، والنظر إلى الشعب الفلسطيني على أنه “مجاميع” سكانية يمكن التفضل عليها ببعض “الإدارة الذاتية” على الأكثر.وكالشعب الجزائري وبقية الشعوب المقهورة واجه الشعب الفلسطيني الغزو الصهيوني منذ بدايته على أثر وعد بلفور في عام 1917، وقد لا تكون بُنَاه السياسية تاريخياً بالمستوى اللازم بالنظر إلى الظروف المحلية والإقليمية المعروفة ولكن مما لا شك فيه أن الشعب الفلسطيني كان لديه الوعي الكافي بما يواجه وطنه وقد نظّم نفسه في أطر سياسية و دينية كان أشهرها “الهيئة العربية العُليا” بزعامة الحاج أمين الحسيني قبل قيام دولة إسرائيل، وحركة فتح (1965) في ستينيات القرن الماضي بزعامة ياسر عرفات، وحركة حماس (1987) بزعامة الشيخ أحمد ياسين.إنّ استمرار حركة النضال الفلسطيني تاريخياً تدل على هذه” المزاوجة” بين العمل السياسي والعمل العسكري فقبل قيام إسرائيل كانت هناك معركة “القسطل” التي استشهد فيها “عبد القادر الحسيني”، ومعركة “جنين” التي استشهد فيها الشيخ “عز الدين القسام” فضلاً عن الإضراب الشهير (1936- 1939) الذي يُعتبر عملاً عسكرياً بامتياز.أمّا بعد النكبة في عام 1948 فقد تعددت الكيانات والأحزاب السياسية المعبِّرة عن طموحات الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال، ولكن إطلاق حركة “فتح” للثورة الفلسطينية في عام (1965) كان علامة بارزة في مسيرة الكفاح الفلسطيني المسلح، ويمكننا القول بأن النضال الفلسطيني الذي قادته حركة فتح وتزعمته من خلال منظمة التحرير الفلسطينية قد أنتهى إلى اتفاقيات “أوسلو” (1993) وتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية بكل ما لها وما عليها.أمّا انطلاقة حركة “حماس” في عام 1987 مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى فقد كانت الحدث السياسي والعسكري الأكبر منذ ذلك الوقت حتى الآن حيث شهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مواجهات عديدة بين حركة حماس التي تمركزت أساساً في قطاع غزة وبين إسرائيل، والتي بلغت ذروتها في أحداث السابع من أكتوبر 2023، التي هزت إسرائيل هزاً عنيفاً ووضعت موضع شك قدرتها الردعية التي طالما تبجّحت بها، وذلك فضلاً عن أنها أعادت طرح القضية الفلسطينية على طاولة العالم كقضية لا بدّ من التعامل معها.ولكن ماذا عن المستقبل؟ هل يجب “التركيز” على النضال السياسي أم العسكري مع الإيمان المطلق بأنهما ضروريان ولا يغني أحدهما عن الآخر؟إنّ الواقع يشير بوضوح إلى أن الشعب الفلسطيني يجب أن يستثمر سياسياً صموده الأسطوري في قطاع غزة، وما دفعه من شهداء ومعاناة رهيبة (قتل، تهجير، تجويع…..) في سبيل كسب قضيته في التحرر والاستقلال، وبخاصة أن العالم الآن أصبح أكثر تفهماً لعدالة قضيته ومشروعيتها ولعلّ هناك مؤشرات مهمة يجب أن تحفّزه للتركيز على ذلك ومنها:أولاً: اعتراف (143) دولة من (192) دولة من دول العالم بالدولة الفلسطينية التي يُفترض أن تقوم على الأراضي المحتلة في عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.ثانياً: اعتراف أربع دول أوروبية (إسبانيا، إيرلندا، سلوفينيا، النرويج) بالدولة الفلسطينية وإعلان فرنسا، وبريطانيا وكندا عزمها على السير في ذات الاتجاه، وذلك في المؤتمر الذي سوف تعقده الأمم المتحدة لمناقشة “حل الدولتين” خلال الشهر القادم.ثالثاً: المظاهرات الضخمة التي شهدتها عواصم العالم ومدنه الكبرى والتي تدل على توجهات الرأي العام العالمي الجديدة، وعدم قبوله بشكل متزايد “للسردية” الإسرائيلية، “وسقوطها الأخلاقي” الذي يتجلى أمام العالم من خلال “حرب الإبادة الجماعية” التي تشنها في قطاع غزة، وبصورة أقل في الضفة الغربية.رابعاً: ظهور “بدايات” وعي في المجتمع الأمريكي وبالذات في “الجناح التقدمي” للحزب الديمقراطي، “وشباب الجامعات” حول عدالة القضية الفلسطينية وضرورة إنصاف الشعب الفلسطيني المظلوم، وهو ما يجب التركيز عليه، لكون الولايات المتحدة هي القوة العظمى الحليفة استراتيجياً لإسرائيل والتي تزودها بكل ما تحتاجه: عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.إنّ المعركة السياسية التي يجب أن تتبناها القوى الحية والمنظمة في الشعب الفلسطيني لا تقل أهمية عن الكفاح المسلح فالحرب كما يقول “كلاوزفيتز” أبو الاستراتيجية الحديثة هي “استمرار للسياسة ولكن بطرق أخرى”، وغني عن القول أنّ هذه المعركة السياسية، يجب ألا تعني بحال من الأحوال طرح خيار المقاومة جانباً وإلقاء سلاحها فالسياسة كما أشرنا آنفاً إذا لم تترافق مع القوة والاستعداد للتضحية والفداء لا قيمة لها ولا تجد من يحترمها ويأخذ بمطالبها ليس فقط في عالم اليوم بل دائماً وفي كل الأحوال.إنّ المطلوب بعبارة مختصرة “هي التركيز” على النضال السياسي لحصد ما دفعه الشعب الفلسطيني من أثمان باهظة وبالذات في الحرب الأخيرة التي ما زالت دائرة في قطاع غزة بين الشعب الفلسطيني بقيادة المقاومة والدولة الصهيونية الشرسة.