الشلول تطرح: هل من الممكن أن يُعاقَب الأب بسبب حبه لأولاده؟ ما أسباب خوف الآباء من رؤية أطفالهم في الأردن؟ ـ بقلم: الدكتورة دانا خليل الشلول

الشلول تطرح: هل من الممكن أن يُعاقَب الأب بسبب حبه لأولاده؟ ما أسباب خوف الآباء من رؤية أطفالهم في الأردن؟ ـ بقلم: الدكتورة دانا خليل الشلول


في كثيرٍ من الأحيان، تتحول قضايا الأحوال الشخصيّة، التي من المفترض أن تكون سبيلاً لتحقيق العدل والمساواة بين الأطراف، إلى كابوس حقيقيّ يطارد أحد الأطراف، خاصةً في الحالات التي يسود فيها التعنت والمكائد الشخصيّة، لا سيما إنّ هذا الواقع المرير يعكس ضعفاً في بعض جوانب المنظومة القانونيّة، ويضع المتضررين في مواجهة تحديات جسيمة، بدءاً من الحرمان من حقوقهم الأساسيّة ووصولًا إلى شعورهم بالتعرض للذلّ والإهانة، هذا التقرير يسلّط الضوء على قضية أبٍّ أردنيٍّ يروي تفاصيل معاناته المستمرة في سبيل رؤية أطفاله والخروج من دوامة الديون والسجن.وهنا وقف سائد يروي تفاصيل معاناته وتداعياتها قائلاً “بعد مرور سنتين كاملتين من الحرمان من أطفالي، ومنعي من أيِّ وسيلة تواصل معهم حتى عبر الهاتف، بالرغمِ من التزامي الكامل بدفع النفقات، عدت إلى الأردن لأتفاجأَ بصدور ثلاثة أوامر منع سفرٍ بحقّي بسبب قضايا النفقة، لأحاول التواصل مع طليقتي لأُبلغها بأنَّ منع السفر هذا سيؤدّي إلى عجزي عن العمل وبالتالي لن أتمكن من الدفع وهذا سيؤدي إلى تراكم النفقات، لكنَّ ردها كان صادماً، حيث برسالةٍ واضحةٍ، تقول فيها أنّها لا تريد منّي دفع النفقات، بل هدفها هو “إذلالي وإهانتي طولَ العمرِ”، لتبوء جميع محاولاتي لإزالة منع السفر بالفشل، فمحامي طليقتي أكّدَ لي عدم قدرته على المساعدة بسبب رفضها التام، وعندما توجّهت إلى المحكمة الشرعية كانت الصدمة أكبر، حيثُ أخبرتُ بضرورة موافقة طليقتي على إزالة المنع، حتى لو أحضرتُ كفيلا، لأقوم أنا أيضاً برفع قضيّة مشاهدة خاصةً وأنَّه من واجبي وحق طفلي أن أشارك بتربيته وليس فقط أن أنفق عليه، خاصةً أنني شعرت بضرورة استثمار وقت وجودي في الأردن لذلك، لكن النفقات استمرت بالتراكم، وفي أولِ جلسةٍ لي في المحكمة لحضور قضية المشاهدة، كانت طليقتي بانتظاري برفقة شرطي، حيثُ تمَّ إلقاء القبض عليَّ بناءً على تعميم سابقٍ منها، وتوسّلتُ لإعطائي فرصةً لحضور الجلسة لرؤية أولادي، لكنَّ طلبي رُفض، وتمَّ إسقاط أول قضية مشاهدةٍ رفعتها بعد حبسي لمدة (35) يوماً، وهي المرة الأولى التي أدخلُ فيها السجن في حياتي، وعندَ خروجي من السجن، تفاجأت بصدور تعميمٍ جديد بحقّي في اليوم نفسه، ولكن في وقت متأخر، مما سمح بالإفراجِ عنّي قبل تفعيله، واستمرّت محاولاتي مع طليقتي لإيجاد حلٍّ، خاصةً أنَّ منعي من السفر وتعميمي جعلا العمل داخل الأردنّ وخارجها أمراً بالغ الصعوبة، لكنْ للأسف، استمرَّ الرفض.”وتابع سائد قصته ” من هنا دخلت في دوامة من السجن والتعميمات المتكررة ففي منتصف رمضان الماضي، تمَّ إلقاء القبض عليّ مجدداً، وحُكمَ عليَّ بالسجن (15) يوماً عن قضيّتين، فكانَ من المفترض أن يتمَّ الإفراج عنّي قبل العيد بسبب إجازة العيد، لكنَّ تعميماً آخر صدر بحقّي وأنا في السجن، ليُجدّدَ حبسي (15) يوماً أخرى بعدَ انتهاء المدة القديمة، وخرجت من السجن بعد العيد بـ 15 يوماً، وشعرتُ حينها بالإذلال والإهانة الشديدة، خاصةً بعد قضائي فترةً ليست قصيرة بين أشخاص محكومين بقضايا إجراميّة وأنا الشخص الذي أتجنب المشاكل طوال حياتي، لأخرج من السجن بنفسيةٍ محطّمةٍ وشبه مريضٍ نفسيٍّ، وأصبحتُ عصبيًّا وأبكي كثيراً، وشعرتُ بأنّه لا مخرج من هذا الأمر، لا سيّما بعد صدور تعميمٍ رابعٍ بحقّي، مما جعلني أخشى الخروج من منزلي، ووصل بي الحال إلى عدم امتلاك ثمن الخبز، لأتوجه بعد ذلك إلى المحكمة الشرعيّة وكتبت استرحامًا لقاضي التنفيذ، شارحا له حالتي مطالبًا بالاكتفاء بالمدة السابقة من حبسي وإلغاء قرار الحبس الجديد لأتمكن من العمل والدفعِ، خاصّةً أنَّ النفقات تستمرُّ في التراكم عليَّ بمبلغٍ كبيرٍ يصلُ إلى (375) دينارًا شهريًّا مع الرسوم، ولا تسقط عنّي حتى لو حُبست عليها، وللأسف رُفضَ طلبي وقيلَ لي إنَّ طلبي “غير قانونيٍّ”، وأنَّ الطليقة تستطيع حبسي (120) يومًا في السنة إذا لم أدفع النفقة، وعندما سألت كيف يمكنني الدفع وأنا في حالة تعميم وحبسٍ مستمرين، فطُلبَ مني الذهاب إلى طليقتي وإيجاد حلّ معها، وعندما أكدت رفضها لجميع الحلول، أُخبرتُ بأنّه لا يمكنُ مساعدتي.”وتابع سائد حديثه “قمت برفع قضية مشاهدةٍ أخرى، لكنّها أُسقطت أيضًا بسبب حبسي للمرة الرابعة، حيثُ حُبستُ (13) يومًا، وشعرت بأنني أصبحتُ من “أصحاب السوابق”، حتى إنَّ من يستلم الأمانات قال لي في آخر مرة “أصبحتَ زبونًا لدينا وتعرف التعليمات لوحدك”، في إشارةٍ إلى نوع الملابس المسموح والممنوع دخولها للسجن، لأخرج بعد (13) يومًا من السجنِ، ليتمَّ التعميمُ عليَّ مرةً أخرى، وأُلقيَ القبضُ عليَّ في بداية عام 2024، وكانَ آخرَ شهرٍ في السنةِ، وتمَّ حبسي (11) يومًا، لتقوم طليقتي بتجديد الحبس عليَّ وأنا في السجن عن نفس المبلغ الذي كنتُ محبوسًا عليه 20 يومًا، و20 يومًا عن القضيةِ الثانيةِ، ليصبحَ المجموع 40 يومًا، حيث قضيتُ المدة كاملةً وخرجتُ من السجنِ لأكمل 120 يومًا من السجن عن النفقات في عام 2024، وبعد يومين فقط تمَّ التعميم عليَّ مجددًا مع بداية عام (2025)، وهنا شعرت بالجنون، كيفَ تمَّ التعميم عليَّ وأنا قد أكملتُ 120 يومًا ومن المفترض ألا تستطيعَ طليقتي ذلك إلا بعد مرور سنة من تاريخ حبسي الأولِ؟ لكنَّ القاضي أجابني: “أنا أعملُ بطريقةِ 1/1 أي بداية عام ميلادي جديد وليسَ بطريقةِ تاريخِ الحبسِ”، لتبدأَ بذلكَ معاناتي الجديدةُ.”وهنا ختم سائد قصته قائلاً ” لم أستطع حل المشكلة إلا من خلال الاستجداء بمحامي طليقتي بإلغائها منع السفر ضدي بعد أن شفت غليلها بحبسي لمدة طويلة، ووضع والدي كفيل لأتمكن من السفر للعمل ودفع النفقة الجديدة والمتراكمة علي، إلا أنني لن أنسى الأيام الصعبة التي جعلتني أشعر بالقهر والذل والحرمان وأنا داخل السجن، لأصبح إنساناً محطّماً، حتى أنني حرمت من رؤية أطفالي داخل مدرستهم دون إذن طليقتي، حيث اجتمعت كل هذه العوامل ضدي إلى جانب مدة سجني الطويلة لتخلق بداخلي شعوراً بأنَّه لا يوجد قانون ينصفني ويُنصف أطفالي، ليراودني أحياناً شعور بأنَّه ليس أمامي خيار سوى خطف أطفالي، أو قتل طليقتي وأطفالي ثم نفسي لأرتاح من هذا الصراع بسبب استخدامها الأطفال كورقة ضغط تلوي ذراعي بها لأشعر برغبة في قتل الأطفال لحرق قلبها عليهم كما حرقت قلبي عليهم وحرمتني منهم ، إلا أنَّ شعوري هذا متردد بين خوفٍ من الله ورأفة بحال الأطفال وتحكيمٍ للعقل والمنطق رغم أنني لا أجد أي طريقةٍ قانونيّةٍ لإحقاق الحق والسير بالمنطق، وأنا متأكد بأنَّ أطفالي لن .”أما عن الجانب النفسي حول هذه القضيّة وتأثيراتها من عدة جوانب؛ أوضحت الأخصائيّة النفسيّة والتربويّة الدكتورة شادية خريسات؛ أنَّه حين تتحول النفقة إلى أداة ضغط وانتقام بين الزوجين، نشهد آثارًا نفسية عميقة لجميع أفراد الأسرة، خاصة الأطفال، حيث أن حرمان الأب من رؤية أطفاله بشكل متكرر مترافقاً بمشاعر قهرٍ وعجز، قد يؤدي إلى تصاعد ردود فعل انفعالية خطرة، تبدأ من التهديد، وقد تصل إلى سلوكيات انتقامية خطيرة، كخطف الأطفال أو إيذاء الطرف الآخر بطرقٍ بشعة قد لا نتصوّرها أحياناً، وهو ما نعتبره مؤشرًا على تصدّع الصحة النفسية والاجتماعية للأب.وأضافت خريسات “ومن جهة أخرى، ينشأ الأطفال في بيئة مشحونة بالغضب، والخوف، وعدم الاستقرار، فيتكون لديهم شعور دائم بالتهديد وعدم الأمان، مما يزيد من احتمالية إصابتهم بمشاكل سلوكية، واضطرابات في التعلق، وتدهور في الأداء الدراسي والاجتماعي، والأسوأ من ذلك أن يُزرَع في وعي الطفل أن ‘النفقة’ أداة ابتزاز، لا حق ثابت يكفله القانون والعدالة. ومن هنا، لا بد من التوازن بين الحقوق والواجبات، بحيث لا يُحرَم الطفل من أحد والديه بسبب خلاف مادي، ولا يُسجن الأب بشكل متكرر بطريقة تُعمّق مشاعر العجز وتغذّي سلوكيات عدوانية لديه قد تنتقل لأسرته وأبنائه والمجتمع، والحل هنا يكمن في نهج وساطات اجتماعية متخصصة، وتفعيل مراكز تسوية النزاعات الأسرية، إضافةً إلى نشر التوعية بأن حق الأطفال في الحب والرعاية لا يقل أهمية عن حقهم في النفقة.”ومن وجهة النظر القانونيّة يقول الخبير القانوني الدكتور أيسر القيسي بأنَّ النفقة دين في ذمة المحكوم عليه، وهي من الديون الممتازة التي تتقدم على سائر الديون الأخرى، وقد بينت المادة (13) من قانون التنفيذ الشرعي سالف الذكر أحكام الحبس؛ وبموجب المادة (13) فإنَّه من حيث المبدأ والأصل العام يجوز للمحكوم له أن يطلب حبس مدينه في جميع الديون بما فيها المهر إذا لم يسدد الدين أو يعرض تسوية تتناسب ومقدرته المالية بعد دفع ربع المبلغ المحكوم به خلال مدة الإخطار، فقد خصّ القانون في المادة ( 13) النفقة بحكم خاص من حيث عدم اشتراط مقدرة المدين على الدفع لغايات طلب حبسه؛ فيجوز للمحكوم له أن يطلب حبس المحكوم عليه في دين النفقة والأجور دون الحاجة إلى إثبات اقتداره، إذا تم طرح الحكم به للتنفيذ خلال مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر من تاريخ صدوره، ومع ذلك لرئيس التنفيذ تأجيل الحبس إذا اقتنع بناءً على تقرير طبي صادر عن طبيب مختص لدى جهة رسمية مؤيد بشهادته أمام رئيس التنفيذ أن المحكوم عليه مريض بمرض لا يتحمل معه الحبس.وأكمل القيسي حديثه “يسري حكم جواز الحبس في دين النفقة في الحالة التي يمتنع فيها المحكوم عليه عن أداء كامل المبلغ المحكوم به، أو بإيداعه جزء من مبلغ النفقة وليس المبلغ كاملاً؛ حيث يجوز طلب حبس المحكوم عليه لإرغامه على الدفع، ولا يكون للمحكمة أن تقضي بالحبس إلا بناءً على طلب المحكوم له بصراحة نص الفقرة (د) من المادة( 13) التي تنص على أنه (د- على الرغم مما ورد في الفقرة (أ) من هذه المادة يجوز للمحكوم له أن يطلب حبس المحكوم عليه في دين النفقة والأجور دون الحاجة إلى إثبات اقتداره، إذا تم طرح السند التنفيذي به للتنفيذ خلال مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر من تاريخ صدوره واذا تم طرحه بعد مضي هذه المدة فيخضع دين النفقة والأجور المتراكمة لأحكام الفقرة (أ) من هذه المادة.من جهتها بيّنت الخبيرة القانونيّة الأستاذة ساره الشيخ أنَّ القانون الأردني يعتبر حق مشاهدة المحضون من الحقوق الشخصيّة الملازمة للعلاقة الأسرية ولا يُسقَط إلا بموجب حكم قضائي مسبب يراعي مصلحة المحضون أولًا وأخيرًا، ووفقًا لأحكام المادة (176) من قانون الأحوال الشخصية رقم (15 ) لسنة (2019 ) فإنَّ تنفيذ المُشاهدة يجب أن يتم في الزمان والمكان المحددين من المحكمة، وفي حال تغيّب طالب المشاهدة عن الجلسة دون عذر مشروع فقد يُعتبر ذلك تنازلًا ضمنيًا أو سببًا لتجميد هذا الحق مؤقتًا، خاصة إذا تكرر الغياب، ومع ذلك إذا ثبت أنَّ التغيّب كان بسبب وجود عذرٍ قهري خارج عن الإرادة، كأن يكون الأب محبوسًا بموجب أمر قضائي فإن ذلك لا يؤدي إلى سقوط حقه في المشاهدة، ولا يُحمّل مسؤولية التغيب شريطة إثبات ذلك أمام المحكمة، وقد كرّست محكمة التمييز هذا المبدأ في عدد من قراراتها، معتبرةً أنَّ الحبس أو المنع القانوني يُشكّل عذرًا مقبولًا يمنع سقوط الحق، ويُمكّن الأب من التقدّم بطلب جديد للمشاهدة بعد زوال العذر مع مراعاة مصلحة المحضون دائمًا، وبالتالي فإنَّ تغيّب الأب عن جلسة المشاهدة بسبب الحبس لا يُعد مسقطًا لحقه ما دام قد ثبت وجود العذر ويمكن له بعد الإفراج أن يُعيد طلب المشاهدة أمام المحكمة المختصة.إنَّ ما تحمله هذه القصة من ألمٍ ومعاناة لأشخاصٍ كُثر، ليست سوى انعكاس صارخ لثغرات تحتاج إلى معالجة عاجلة في منظومة الأحوال الشخصية، حيث يجد فيها كثيرون تناقضًا مؤلمًا؛ ففي حين يكفل القانون حق الأب في مشاهدة أطفاله حتى وإن كان محبوسًا، إلا أن آليات التنفيذ الفعلية تحرمه من ممارسة هذا الحق بل وتُبقيه في دائرة لا نهاية لها من الحبس وتراكم الديون، مما يمنعه من العمل لتسوية أوضاعه، وما هو غير منصفٍ حقًا هو أن يُحرم الأب من حقه في التقاضي وهو داخل السجن، فكيف له أن يسعى لإنصافه أو حل مشكلته إذا لم يُسمح له بحضور جلسات المحكمة والعودة إلى حبسه إذا كان لا بد من تنفيذ الحبس لحل المشكلة؟ هذا الواقع يُحوّل النفقة التي هي حقٌ أساسيٌ للأطفال إلى أداة ابتزاز وإيذاء شخصي، ويدفع بآباء مثل سائد نحو حافة الهاوية النفسية والاجتماعية، وهذا يتطلب تحقيق العدالة والحد من هذه المعاناة، وتضافر الجهود القانونيّة والمجتمعيّة والنفسيّة، لضمان حماية الأطفال من الصراعات الأبوية، ولإيجاد آليات فعالة تمنع تحول النفقة إلى أداة انتقام، وتحافظ على حقوق الأبوين في رعاية أبنائهم بعيداً عن دائرة التعنت والانتقام، كما تُسلّطُ هذه القصص والوقائع نظرنا بحزمٍ على الحاجةِ الملّحة لمراجعة بعضِ الإجراءات القانونيّة المتعلّقة بقضايا النفقةِ والمشاهدةِ، لضمانِ عدم تحوّلها إلى أداةٍ للانتقام أو الإذلال، فبالرغم من أهمية حقوق الأطفال والزوجات، يجبُ أن تكون هناك آلياتٌ توازنُ بينَ هذه الحقوق وقدرة الآباء على الوفاء بالتزاماتهم دون أن يقعوا ضحيةَ تعنتٍ لا مبرر له، ولا أن يُستخدم القانون بقيمه السامية التي تهدف لتحقيق العدالة كأداة انتقاميّة ضدهم ليكون الأطفال هم الخاسر الأكبر في النهاية.