السلوك الوطني في إطار التحديات: تحليل نفسي لخطاب الملك عبد الله الثاني أمام البرلمان الأوروبي

مدار الساعة – كتب: الدكتور خالد عدنان البطاينة – عندما نتحدث عن الدول، فإننا غالباً ما نُغفل الجانب السلوكي والنفسي الكامن خلف قراراتها، ونتعامل معها كوحدات سياسية مجردة. غير أن خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين في البرلمان الأوروبي شكَّل نقطة تحول في هذا التصور، إذ أعاد الاعتبار لما يمكن تسميته “الهوية السلوكية للدول”، مشدداً على أن “إنسانية العالم تُختبر” في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، والتصعيد الإقليمي الذي طال إيران، إلى جانب ممارسات إسرائيل الداخلية والخارجية التي تمارس الإقصاء والعدوان ضد غير اليهود.ومن خلال خبرتي المتواضعة كأخصائي في علم النفس، يمكننا أن نقرأ هذا الخطاب من منظور علم النفس الاجتماعي والسياسي، لنُسلط الضوء على السلوك الجمعي للدول، والعمليات النفسية التي تحكم العلاقات الدولية في أوقات الأزمات، وبخاصة ما يرتبط بمفاهيم مثل “اللاعقلانية الجماعية، التنافر المعرفي، الإقصاء النفسي، والمناعة الأخلاقية الجماعية”.أولاً: اختبار الإنسانية كمفهوم نفسي جماعيفي معرض خطابه، قال جلالة الملك إن “إنسانية العالم تُختبر”، وهي عبارة تختزل ما يُعرف في علم النفس بـ “المحددات الموقفية للأخلاق” (Situational Determinants of Morality). ففي أوقات الحروب والأزمات، تواجه الدول، كما الأفراد، معضلة الهوية الأخلاقية: هل تلتزم بمبادئها المعلنة، أم تنزلق نحو سلوك انتقائي مصلحي يتجاوز إنسانية الآخر؟هنا، يظهر ما يُعرف بـ الازدواجية المعرفية (Cognitive Dissonance)، عندما تنادي دول بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، ثم تتجاهل المجازر والانتهاكات. ويُحَلُّ هذا التنافر ليس عبر تعديل السلوك، بل من خلال تبريرات نفسية وإعلامية تُعيد تأطير الواقع بما يخدم السلوك المتناقض، وهو ما أشار إليه الخطاب الملكي ضمنياً.ثانياً: سلوك الدول كنتاج لبُنى نفسية لا سياسية فقطمن منظور علم النفس، يمكن النظر إلى الدول كـ “شخصيات معنوية” تمتلك ما يشبه الأنماط الشخصية الجماعية (Collective Personality Patterns)، تتراوح بين الإيثار، النرجسية، أو العدوان المُمَنهَج المُبرَّر أخلاقياً.وقد وجّه جلالة الملك خطابه ليس فقط إلى صانعي القرار السياسي، بل إلى ما يُعرف في علم النفس بـ “الضمير الجمعي” (Collective Conscience)، مؤكداً أن صمت الدول تجاه الانتهاكات ليس حيادًا، بل شكل من السلبية الأخلاقية (Moral Disengagement) التي تطبع سلوكها الخارجي وتبرر غياب الفعل الأخلاقي.ثالثاً: العنف والإفلات من العقاب كمحفز لنمط عدواني–نرجسيإن الاستمرار في قتل الأبرياء وتدمير البنية الإنسانية في غزة، كما أشار إليه الخطاب، يكشف عن نمط سلوكي يقوم على ما يُعرف بـ “العدوان النرجسي” (Narcissistic Aggression)، حيث تعتبر بعض الكيانات نفسها مركزاً أخلاقياً محصَّناً، يمنحها شرعية ذاتية تمكنها من ارتكاب العنف دون مساءلة قانونية أو أخلاقية.وقد أضاء جلالة الملك على خطورة هذا النمط، مؤكداً أن المعيار الأخلاقي لا يُقاس بالقوة، بل بدرجة الالتزام السلوكي بالقيم الإنسانية، في دعوة ضمنية لإحياء ما يُعرف في علم النفس بـ “الذكاء الأخلاقي” (Moral Intelligence) في سلوك الدول.رابعاً: الصمت الدولي والإقصاء النفسي للآخرنبَّه جلالة الملك إلى خطورة تجاهل المأساة الإنسانية، وهو سلوك يمكن تحليله نفسياً كنوع من الآليات الدفاعية النفسية الجماعية (Collective Defense Mechanisms)، وأبرزها:• التحييد العاطفي (Emotional Numbing)• الإنكار المؤسسي (Institutional Denial)• إعادة توصيف الضحية (Victim Reframing)وهي استراتيجيات نفسية تبرّر الصمت أو التواطؤ، وتُسهم في إدامة العدوان من خلال إقصاء إنسانية الآخر من الوعي الجمعي الدولي.دعوة لإعادة صياغة السلوك الدولي في خطاب جلالتهيرى علم النفس الحديث أن القيم الإنسانية ليست فقط أدوات أخلاقية، بل أسس تنظيمية سلوكية تُحدِّد أداء المجتمعات والدول، خاصة في أوقات الأزمات. وقد جسَّد خطاب جلالة الملك هذه الرؤية بوضوح، حين دعا إلى مراجعة البعد السلوكي والأخلاقي للسياسات الدولية، وإعادة الاعتبار للإنسانية لا بوصفها شعاراً سياسياً، بل معياراً جوهرياً يُقاس به سلوك الدول.فقد جاء الخطاب بمضامين تتجاوز البعد السياسي التقليدي، ليلامس جوهر الإنسان ومعناه، ويضعنا أمام مرآة سلوكية تعكس الواقع الأخلاقي والنفسي الذي تمر به المنظومة الدولية. لقد كان بحق خطاباً إنسانياً شاملاً، يحمل في عمقه نداءً عالمياً للضمير الإنساني، ويعيد رسم معايير الفعل الدولي ليس على أساس توازن القوى فقط، بل على أساس السلوك القيمي والوجداني الذي يُعبر عن رُقيِّ الأمم ونضجها النفسي.فالدول، وإن بدت كيانات مؤسسية، إلا أن قراراتها وسلوكها تنبع من دوافع وتصورات ومخاوف لا تختلف كثيراً عن تلك التي نراها على المستوى الفردي.