تحليل شامل لخطاب جلالة الملك في البرلمان الأوروبي بستراسبورغ – بقلم: العين حسين هزاع المجالي

الخطاب لم يكن مجرد نداء… بل يمكن اعتباره “خارطة طريق أخلاقية–أمنية” للمرحلة المقبلة.جاء خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني أمام البرلمان الأوروبي في لحظة شديدة الحساسية من عمر النظام الدولي، في وقت مر به المجتمع الدولي بالعديد من الاضطرابات السياسية والتكنولوجية والاقتصادية؛ من جائحة فيروس كورونا، وتهديدات أمنية جديدة، وتسارع تكنولوجي غير مسبوق، إلى المعلومات المضللة التي تفشت بشكل مفرط، الى وقت يتسارع فيه تفكك منظومة القيم التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية، ويشتد فيه زخم النزاعات الإقليمية من أوكرانيا إلى غزة، مروراً بإيران، في ظل تحولات حادة في موازين القوى وتراجع خطير في الأداء الأخلاقي للمجتمع الدولي. وقد عكس الخطاب إدراكاً عميقاً من جلالته لطبيعة هذا المنعطف، فخاطب أوروبا من بوابة ضميرها التاريخي، مذكّراً إياها بأن قيامها من رماد الحرب قد ارتكز ليس فقط على إعادة بناء المدن، بل على إحياء منظومة قيم إنسانية كونية، شكلت أساس أمنها واستقرارها لعقود.الخطاب لم يكن عاطفياً أو إنشائياً، بل صيغ بدقة وصرامة استراتيجيتين، حيث رسم جلالة الملك مشهداً دقيقاً ومقلقاً لتحولات العالم، مستخدماً تعبيرات حاسمة مثل “فقدان البوصلة الأخلاقية” و”انهيار الحدود الأخلاقية”، وهي إشارات ذات دلالة عميقة في التحليل السياسي والأمني، لأن غياب المرجعية الأخلاقية في العلاقات الدولية يؤدي مباشرة إلى تآكل شرعية القانون، وصعود الفوضى والصراع المفتوح. كما أعاد جلالته ربط القيم الإنسانية بمفهوم الأمن العالمي، وهو طرح نادر في المشهد الدولي الراهن، الذي تنحو فيه القوى الكبرى نحو البراغماتية البحتة، متناسية أن أساس أمنها التاريخي لم يكن القوة العسكرية فقط، بل أيضاً منظومة القيم التي ضمنت احترام الإنسان وكرامته.وفي تحذير بالغ الدلالة، شدد جلالة الملك عبد الله الثاني على أن استمرار ازدواجية المعايير في التعامل مع الصراعات، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، لا يهدد فقط بانهيار المنظومة الأخلاقية العالمية، بل ينذر بانهيار شامل للنظامين السياسي والأمني على مستوى العالم. وعندما قال إن الجرافات التي تهدم منازل الفلسطينيين “تهدم أيضاً الحدود الأخلاقية”، كان يوجه رسالة صريحة مفادها أن غياب العدالة ليس شأناً محلياً محصوراً في غزة أو الضفة الغربية، بل هو خطر عالمي مرتد، يزعزع ما تبقى من توازنات دولية ويهدد أمن الجميع دون استثناء.الخطاب حمل رسائل متعددة الاتجاهات، صريحة في ظاهرها، وعميقة في باطنها، تشكّل في مجملها خطاباً مُشفّراً موجهاً لكل طرف بلغته، يحمل ما بين السطور دلالات استراتيجية وأخلاقية بالغة الأهمية.فللأوروبيين، كانت الرسالة دعوة واضحة لاستعادة دورهم الأخلاقي والتاريخي، لا باعتبارهم قوة عظمى فحسب، بل كأمم نهضت من تحت رماد الحروب لتؤسس نظاماً إنسانياً قائماً على التعددية والعدالة.أما لإسرائيل، فقد وجّه جلالة الملك تحذيراً استراتيجياً محسوباً، مفاده أن استمرار الحرب واتساع رقعتها لتشمل إيران ينذر بانفجار إقليمي واسع النطاق، لا يمكن التنبؤ بمآلاته.وللمجتمع الدولي عامة، جاء الخطاب كمرآة تعكس حجم التناقض الصارخ بين المبادئ المُعلنة والممارسات الفعلية، خاصة في غزة، حيث باتت أفعال كانت تُعدّ قبل أعوام وحشية وغير مبررة — كقصف المستشفيات واستهداف المدنيين — واقعاً متكرراً لم يعد يثير حتى الاستغراب أو الاستنكار.من منظور أمني واستراتيجي، يمثل خطاب جلالة الملك إعادة ضبط دقيقة للبوصلة السياسية في المنطقة. فلقد سلط جلالته الضوء على الترابط العميق بين الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط والأمن الأوروبي، ويؤكد أن استمرار الظلم في فلسطين ليس فقط مأساة إنسانية، بل تهديداً استراتيجياً لاستقرار النظام الدولي. فالمنطقة تقف على حافة غليان شعبي قد لا تتمكن الأنظمة التقليدية من احتوائه، ما لم يتم كبح جماح الظلم، واستعادة الأمل لدى شعوبها.وفي الوقت ذاته، أعاد جلالة الملك التأكيد على مكانة الأردن كدولة معتدلة وركن استقرار موثوق، يملك شرعية أخلاقية وتاريخية عميقة، وقدرة دبلوماسية على التوسط والبناء، لكن ضمنياً، فإن الرسالة كانت واضحة: لا تراهنوا فقط على الجغرافيا، بل على من بقي متمسكاً بالقيم.وقد طرح جلالته مسارين للعمل العالمي، أولهما دعم التنمية في المنطقة باعتبارها ضمانة للاستقرار، والثاني اتخاذ إجراءات منسقة لوقف الحروب، وفي مقدمتها الحرب في أوكرانيا، والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وفي هذا السياق، لم يكن حديثه عن الدولة الفلسطينية حديثاً إنشائياً، بل طرحاً استراتيجياً يعتبر قيام الدولة الفلسطينية حقاً للشعب الفلسطيني، وأداة لتحقيق السلام العادل والأمن الشامل.ما يميز هذا الخطاب أنه لا يكتفي بتشخيص الواقع، بل يقدم قراءة ناضجة تستبطن توصيات جوهرية: أن على أوروبا أن تتجاوز التردد وأن تتوحد حول قيمها؛ وأن على العالم أن يقرر بوضوح ما إذا كان سيختار حكم القانون، أم قانون القوة والغلبة؛ وأن قضية فلسطين ليست ملفاً إنسانياً فقط، بل معركة على روح النظام الدولي نفسه.في المحصلة، لم يكن خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني نداءً سياسياً تقليدياً، بل وثيقة حضارية واستراتيجية تضع المجتمع الدولي أمام مفترق حاسم: إما أن يستعيد إنسانيته، أو أن يواصل انحداره نحو العدمية. إنه خارطة طريق أخلاقية – أمنية لعالم مضطرب، لا يملك ترف التردد أكثر من ذلك. خطاب يحمل في طياته عمق القائد، وبعد نظر العسكري، وحكمة رجل الدولة، وهو في آنٍ معاً دعوة للتاريخ كي لا يعيد أسوأ فصوله.