الركيزة المفقودة في الاقتصاد العالمي: تحليل اقتصادي لخطاب الملك – تأليف: د. رعد محمود التل

في خطابه الأخير أمام البرلمان الأوروبي، قدّم جلالة الملك عبدالله الثاني واحدة من أكثر الرؤى تكاملًا بين الأخلاق والسياسة والاقتصاد في زمن يتصدع فيه النظام الدولي تحت وطأة الحروب والأزمات وفقدان القيم. كان خطابه دعوة لإعادة التفكير لا في مسار الصراع في غزة فقط، بل في طبيعة النظام الاقتصادي العالمي بأكمله، الذي بات أسيرًا لمعادلات القوة ومصالح الكبار.الرسالة الأساسية في الخطاب كانت واضحة: غياب القيم لم يعد أزمة أخلاقية فحسب، بل أصبح خطرًا وجوديًا على الاستقرار والنمو العالمي. عندما يُستخدم الحصار والتجويع كأدوات سياسية، وحين يصبح استهداف المستشفيات والمدنيين أمرًا اعتياديًا، فإن ما يُهدد ليس فقط حياة الشعوب، بل مصداقية النظام الدولي، بما في ذلك نظامه الاقتصادي.جلالة الملك أشار إلى مفترق طرق حاسم يواجهه العالم: إما أن نختار حكم القانون أو نسمح بسيادة القوة. وهذه المفاضلة ليست بعيدة عن الاقتصاد، بل تقع في صلبه، فاقتصاد العالم قائم على شبكات ثقة، واستقرار سياسي، وتدفقات آمنة لرأس المال والموارد. وكل ذلك ينهار عندما تسود الفوضى، وتُهمل القيم، وتُدار الأزمات بمنطق المصالح الضيقة لا العدالة الشاملة!التحليل الاقتصادي لخطاب جلالة الملك يتطلب فهمًا أعمق لواقع الشرق الأوسط كمنطقة شديدة التأثير على الاستقرار العالمي، لا بسبب الطاقة فقط، بل بسبب ما تحمله من فرص نمو أو من احتمالات انفجار. وعندما قال جلالته إن “انعدام الأمل يمتد بتداعياته إلى ما بعد حدود الدول”، فقد لخّص واحدة من أهم مدارس التحليل في الاقتصاد السياسي الحديث حيث “الأزمات غير المسيطر عليها في منطقة تُصبح تهديدًا لنمو الجميع”. طبعا تأخذ تلك الأزمات أشكالا مختلفة سواءً سياسية أو اقتصادية أو انسانية، والتي تُترك دون استجابة فعالة أو تدخل، سواء من الدولة المعنية أو من المجتمع الدولي، ما يؤدي إلى تفاقم آثارها وتحولها إلى تهديدات ممتدة تتجاوز حدود المنطقة، فتؤثر على الاستقرار الإقليمي والنمو العالمي!والأردن، كما عبّر جلالة الملك، يقدم نموذجًا لدور صغير بحجم الجغرافيا، كبير بحجم الفكرة، شريك في التنمية، وحارس للقيم المشتركة، وداعٍ لحل الصراعات بالعدالة لا بالإنكار. وهنا يظهر جوهر الخطاب: دعوة إلى أوروبا ليس بصفتها حليفًا سياسيًا فقط بل كقوة اقتصادية عظمى عليها مسؤولية تجاه النظام العالمي الذي استفادت منه لعقود.في عالم تُقاس فيه القرارات بمؤشرات الناتج المحلي والتصنيفات الائتمانية، يذكّرنا الخطاب الملكي أن الاقتصاد لا ينفصل عن الواقع الإنساني، وأن “الطريق الذي نرتقي به لا تصنعه التكنولوجيا وحدها، بل الخيارات الأخلاقية اليومية” كما جاء بالخطاب الملكي. هذه ليست جملة إنشائية، بل قاعدة اقتصادية عميقة: لأن الأسواق لا تزدهر في الفراغ، بل تحتاج إلى بيئة مستقرة، عادلة، وذات مصداقية.في زمن تتراجع فيه أصوات العدالة أمام ضجيج المصالح، يُقدّم هذا الخطاب صيغة بديلة: لا يمكن أن يستمر الاقتصاد العالمي في العمل وكأن الأخلاق تفصيل جانبي. ما يحدث في غزة، وفي الضفة، وفي مناطق النزاع الأخرى، هو اختبار لقدرة العالم على الجمع بين المنفعة والمبدأ، بين الانكار والعدالة، بين النمو المتوحش والسلام. إن لم يعد النظام العالمي إلى بوصلته الأخلاقية، فإن تكلفة الانحراف لن تكون سياسية فقط، بل اقتصادية وباهظة.