استدامة السلام العالمي والاستقرار الإقليمي من خلال التعاون بين الأردن وأوروبا: حماية الأماكن المقدسة وتعزيز القيم الإنسانية لبناء مستقبل فلسطيني مستدام – بقلم نضال الثبيتات العمرو

ألقى جلالة الملك عبد الله الثاني خطاب تاريخي أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، حدَّد فيه مشهد إقليمي مضطرب بدأ بالمواجهات المتسارعة شرق أوسطية ثم امتد إلى جوائح عالمية شملت الأزمات الصحية والحرب في أوكرانيا؛ حيث وصف الملك الوضع بأن “عالمنا قد ساده الانفلات، وكأنه فقد بوصلته الأخلاقية”، مشير إلى تسلسل الاضطرابات السياسيّة والاقتصادية والتكنولوجية دون انقطاع، من جائحة كورونا إلى “الحرب القاسية على غزة” وأخيراً “الهجمات الإسرائيلية على إيران”؛ فبهذا السرد، يؤكد جلالته أن أزمات المنطقة الحالية (الهجوم الإسرائيلي على غزة وصراع إسرائيل-إيران) ليست محليَّة فحسب بل تتداخل مع الانعطافات العالمية التي تضع الشرعية الدولية على المحك. برز في الخطاب بعد ذلك التأكيد على أن درس أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية يوفر نموذج للقيم الأخلاقية المشتركة التي تبقى الأساس لحل الأزمات؛ استشهد الملك بإرادة الأوروبيين حين قرروا “ترك الماضي وبناء عصر جديد من السلام” عبر “اختيار الكرامة الإنسانية بدلاً من الهيمنة، والقيم بدلاً من الانتقام، والقانون بدلاً من القوة، والتعاون بدلاً من الصراع”، واستنتج منهم أن “الأمن الحقيقي لا يكمن في قوة الجيوش، بل في قوة القيم المشتركة”، مؤكداً أن السلام المفروض بالقوة والخوف “لن يدوم أبداً”؛ بهذا، يضع الملك إطار منطقي يربط بين الأبعاد الإقليمية السياسـية والأخلاقية العالمية؛ إذ أن اعتبار الحلول السياسية والتنسيق الدولي في المنطقة متوقف على استعادة الزخم القيمي الذي بنى عليه الأوروبيون استقرارهم.كما أن الخطاب عزز التأكيد على أهمية القيم المشتركة بين الشعوب والأديان في مواجهة الفوضى، فقد شدّد الملك على أن الأردن، بتاريخه وهويته الوطنية، مثال حي على “الإيمان الراسخ بالقيم المشتركة بين الأديان السماوية الثلاثة” ومرتكز سياسات التسامح والاحترام، وذكر اعتزاز الأردنيين بأن وطنهم يضم “موقع عماد السيد المسيح” إلى جانب وجود أقليات مسيحية عريقة بين غالبية مسلمة، معبّراً عن تلاحم الشعب الواحد دون تفرقة؛ وقدّم جلالته هذه القيم الدينية الفاضلة – “الرحمة والعدل والمساواة” – كأمثلة عملية أخرجها التراث الديني من الإسلام والمسيحية؛ فاحترام الجار وحماية الأطفال والأبرياء وإعانة الفقراء، كلّها قيم إنسانية تضرب بجذورها في عقيدة الشعوب، وذكر أيضاً أنّ الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس تقوم “على هذه القيم”، ما يؤكد ارتباط الرسالة السياسية (الدفاع عن الحقوق الفلسطينية المشروعة) بالالتزام الأخلاقي (حماية الهوية الدينية والتاريخية للقدس).أبرز الملك في خطابه، جانبه السياسي الإقليمي بمعالجة مباشرة لملفات الشرق الأوسط الملتهبة؛ فقد شجب في كلامه الدمار الحاصل في غزة والضفة الغربية ووصفه بأنه “لا يتماشى مع القانون الدولي والمعايير الأخلاقية وقيمنا المشتركة”، مستنكراً المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وفي نبرة تحذيرية قوية، حذر المجتمع الدولي من الخروج عن “الأخلاق العالمية” إذا استمر الصمت أمام تدمير منازل الفلسطينيين وأحراش الزيتون ووجه اتهاماً ضمنياً لمبدأ التوازن الدولي قائلاً إن فشل العالم في التصرف “يجعلنا متواطئين في إعادة تعريف معنى أن تكون إنسانًا”؛ كما نبّه إلى أن اتساع مواجهة إسرائيل ليشمل إيران يعني دخول المنطقة والعالم في حلقة من العنف المفتوح “لا يُعرف أين تنتهي”؛ في المقابل، شدد على حق الفلسطينيين في الدولة المستقلة معتبراً أنه “مثلهم كمثل جميع الشعوب، يستحقون الحق في الحرية والسيادة”، مبرزاً أن إنجاز السلام العادل لا يتحقق إلا بإقرار الشرعية والدستور الدولي والاعتراف المتبادل.هكذا، وظّف الملك خطاب القيم المشتركة كأداة سياسية لدعوة الاتحاد الأوروبي إلى تحمل مسؤولياته تجاه الأزمات الإقليمية؛ فقد خاطب قادة البرلمان بأنّ السنة المقبلة “سنة القرارات المحورية” لاختيار الطريق الصائب، موضحاً أن لأوروبا “دوراً حيوياً” في هذا الاختيار، معرباً عن استعداد الأردن كشريك قوي لمساعدتهم.وحدد الملك مجالين للعمل المشترك؛ أولهما دعم التنمية في الشرق الأوسط لأن “ازدهار المنطقة يوفر فرصاً تعود علينا جميعاً بالنفع”، وثانيهما تحقيق الأمن العالمي عبر إنهاء الحروب الكبرى، ليس فقط في أوكرانيا بل “أيضاً أطول بؤرة اشتباك في العالم وأكثرها تدميراً”، وهو الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي؛ ويربط بهذه النقطة بين بعدين؛ الأمن السياسي والإقليمي، من جهة، والمرتكزات الإنسانية والأخلاقية من جهة أخرى، عندما يذكر ضرورة العمل “بحزم ومنسق” لتحقيق الأمن؛ وينتهي إلى أن الطريق الوحيد لنهـاية معاناة المنطقة هو “السلام العادل والقائم على القانون الدولي والاعتراف المتبادل”، داعياً الجميع – قادةً وشعوباً – إلى التمسك بالقيم الأصيلة التي تجمعهم وتضبط سلوكهم، متنبهاً إلى أن استئناف مسار السلام يتطلب “الشجاعة اللازمة وقوة الإرادة”.جسد خطاب الملك عبدالله الثاني تماسكاً بين البعد السياسي الإقليمي وترسيخ خطاب القيم المشتركة؛ فهو يربط بين السياسات والحقوق في المنطقة وبين المبادئ الأخلاقية والإنسانية الجامعة التي حضّ عليها الخطاب، وقد قدّم جلالته أمام البرلمان الأوروبي النموذج الهاشمي الذي ينطلق من هذه القيم لإنهاء الصراع وتحقيق الاستقرار، مطالباً الحضور بأن لا تغيب عنها أبداً نظراً للأزمات الحالية؛ وهكذا، عكست كلمته رؤية تقوم على توظيف الترابط الأخلاقي بين الشعوب ومصالحها المشتركة كقوة دافعة لتجاوز الأزمات السياسية، مؤكداً أن أي تصعيد من شأنه أن يفرّق دون ضمان السلام، بينما التعاون على أساس القيم والعدالة يكفل مستقبلاً أكثر أمناً لجميع الأطراف.