وصفة للقيم الإنسانية في زمن التهديد – بقلم: الدكتور خالد الشقران

وصفة للقيم الإنسانية في زمن التهديد – بقلم: الدكتور خالد الشقران


يمثل خطاب الملك عبدالله الثاني أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ وثيقة سياسية وأخلاقية فائقة الأهمية، تجسد رؤية الأردن الاستشرافية للأزمات الإقليمية والدولية، فقد جاء الخطاب في لحظة حرجة تشهد تصعيداً إقليمياً غير مسبوق، حيث حذر جلالته من تداعيات توسيع إسرائيل عملياتها العسكرية لتشمل إيران، مشيراً إلى استحالة تحديد «حدود هذه المعركة» وانعكاساتها التدميرية على الشعوب في كل مكان، وهذا الأمر إنما يعكس فهماً عميقاً لطبيعة التحولات الجيوسياسية في المنطقة، خاصة في ظل التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران الذي يهدد بتحويل الصراع إلى حرب إقليمية شاملة.حذر الملك من أن البشرية عند مفترق طرق حاسم يتطلب اختيارا مصيريا «بين السلطة والمبدأ، بين حكم القانون وحكم القوة»، مؤكدا على المسؤولية الإنسانية والأخلاقية المشتركة ومبينا أن فشل المجتمع العالمي في التصرف بشكل حاسم، يجعل الجميع متواطئين، الأمر الذي يستدعي عندها «إعادة تعريف معنى أن تكون إنسانا». هذا الطرح يضع العالم أمام مسؤولية تاريخية برسالة واضحة ومحددة مفادها «إما الوقوف مع العدالة أو المشاركة في الجريمة».وفي هذا الإطار رفع الخطاب الملكي القضية الفلسطينية من صراع حدود إلى اختبار اخلاقي، عبر تأكيده أن الحرية حق غير قابل للتصرف انطلاقا من أن الفلسطينيين مثلهم مثل جميع الشعوب، يستحقون حقهم في الحرية والسيادة وإقامة دولتهم المستقلة. كما عرض جلالته تحليلاً أخلاقياً وقانونياً صارماً لواقع غزة والضفة الغربية، حيث وصف ما يحدث في غزة بأنه «يتنافى مع القانون الدولي والمعايير الأخلاقية» ويمثل انهياراً للقيم، مستنكرا تحول الانتهاكات من استثناء إلى نمط اعتيادي، حيث أصبحت الهجمات على المستشفيات والمجاعة كسلاح ضد الأطفال أموراً «شائعة» بدلاً من أن تبقى أفعالاً وحشية مستنكرة. هذا التشخيص يفضح ازدواجية المعايير الدولية في التعامل مع الأزمات الإنسانية، خاصة مع استمرار تدهور الوضع في الضفة الغربية «يوماً بعد يوم» دون تحرك دولي حاسم؛ وهو ما يجعل إنهاء الاحتلال شرطا لاستعادة العالم كرامته الأخلاقية.الخطاب تخطى النقد المباشر ليقدم رؤية بديلة قائمة على القيم المشتركة، حيث استحضر الملك نموذج أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي اختارت «الكرامة الإنسانية عوضاً عن الهيمنة، والقيم عوضاً عن الانتقام، والقانون عوضاً عن القوة، والتعاون عوضاً عن الصراع». هذا التوظيف الذكي لتجربة الاتحاد الأوروبي يؤسس لحلول عملية، حيث قدم الأردن نفسه كشريك استراتيجي لأوروبا في مجالين محوريين: دعم التنمية الإقليمية لتحقيق الاستقرار، واتخاذ إجراءات منسقة لإنهاء الصراعات التاريخية، وعلى رأسها «أطول بؤرة اشتباك في العالم»–الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.البعد الروحي والديني للخطاب مثّل ركيزة أساسية أخرى، حيث ربط جلالته الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس بالقيم المشتركة بين الأديان السماوية الثلاثة وبالتاريخ الإسلامي من خلال استحضار العهدة العمرية كنموذج للتسامح، تلك التي أمرت المسلمين باحترام كنائس القدس وحمايتها، وعدم إيذاء أي كاهن ولا قتل طفل أو امرأة أو شيخ، مؤكدا أن الوصاية الهاشمية تمثل امتدادا لهذه القيم. هذا الربط إنما يؤكد أن حماية التنوع الديني جزء من الهوية الأردنية، إذ علمت المملكة على الدوام مع المجتمع الدولي لتحويل الصراع من دائرة السياسة الضيقة إلى صراع وجودي حول «الهوية كمجتمع عالمي» والقيم الإنسانية الأساسية.هذا الخطاب إنما يعكس أهمية رؤية الملك كزعيم سياسي وحارس للضمير في عصر التواطؤ، وفي الوقت نفسه يقدم جلالته رسالة تفاؤل مهمة في أوج الحروب والصراعات التي تشهدها المنطقة بقوله: «لقد سلكنا طريق السلام من قبل، ويمكننا أن نسلكه مجددا»، وهو ما يمثل دعوة عملية للعمل تتطلب «الشجاعة اللازمة» لاختيار الحل القائم على السلام العادل والقانون الدولي، في عام وصفه بأنه «عام القرارات المحورية»، وهو ما يجعل «خطاب ستراسبورغ» خارطة طريق أخلاقية وإنسانية ليس فقط للشرق الأوسط، بل لمستقبل النظام الدولي ككل.