الضمور يكتب: سيّد القلوب ومدافع عن القيم في عصر التواطؤ – بقلم: د. محمد خير فيصل الضمور

الضمور يكتب: سيّد القلوب ومدافع عن القيم في عصر التواطؤ – بقلم: د. محمد خير فيصل الضمور


في لحظة من اللحظات التي يكاد فيها الصمت أن يغدو لغة العالم، ويتحوّل فيها الألم إلى عادة يومية لا تثير الدهشة، وقف جلالة الملك عبدالله الثاني، يوم الثلاثاء 17 حزيران 2025، على منبر البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، ليقول كلمته. لا ليبحث عن مجدٍ خطابي، ولا ليكسب جولة دبلوماسية، بل ليُعيد للعالم صوته المفقود، ويذكّره، بكل الصدق والأمانة، أن هناك من لا يزال يحمل في قلبه همّ الإنسان، لا حسابات المصالح ولا لغة السلاح.لم يكن خطاب جلالته عابرًا، ولم يكن كسواه من الكلمات المحنّطة التي تُلقى ثم تُنسى. لقد كان موقفًا إنسانيًّا صارخًا، محمولًا على ضمير حيّ، وعقل متّزن، ووجع عميق على ما آلت إليه أحوال هذا الكوكب، وبخاصة في غزة، حيث باتت المجازر تُرتكب على مرأى العالم ومسمعه دون أن يرفّ له جفن.قالها الملك بوضوح وصدق: “ما يحدث في غزة يتنافى مع القانون الدولي والمعايير الأخلاقية وقيمنا المشتركة”، ثم أضاف، بصوت من يعرف حجم المسؤولية: “نحن نشهد الانتهاكات تلو الأخرى في الضفة الغربية، والوضع يزداد سوءًا يومًا بعد يوم.” لم يكن في كلامه تكلّف، ولا مبالغة، بل حقائق مرّة ينكرها فقط من اختار أن يعزل ضميره عن معاناة البشر.الشجاعة في زمن التواطؤفي زمنٍ تغيب فيه الحقائق وتُختزل فيه المآسي في أرقام، امتلك الملك شجاعة التسمية. لم يُهادن، لم يُساوم، ولم يساير. أشار إلى أن العالم بات يعيش لحظة انفلات أخلاقي، وقالها صراحة: “كيف يعقل لما كان يعتبر فعلاً وحشياً قبل 20 شهراً فقط، أن يصبح الآن أمراً شائعاً؟ كيف للمجاعة أن تُستخدم كسلاح ضد الأطفال؟ كيف نسمح باستهداف الأطباء والصحفيين والنساء الباحثين عن ملاذ؟”هذه الأسئلة لم تكن مجرد أساليب بلاغية، بل كانت اتهامًا مباشرًا للصمت العالمي، وقرعًا مدويًا لجدران النظام الدولي الذي بدأ يتآكل من الداخل، كلما غضّ الطرف عن الظلم، وتواطأ مع القوة.دور الأردن في ظل العاصفةرغم صِغَر حجمه الجغرافي، لم يتراجع الأردن عن موقعه التاريخي والأخلاقي في الدفاع عن فلسطين والقدس والمقدسات. وفي خطابه، ذكّر جلالة الملك بالدور الجليل للوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، مشددًا أن هذه الوصاية ليست مجرد مسؤولية سياسية، بل التزام ديني وتاريخي وأخلاقي، راسخ في وجدان الأسرة الهاشمية منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ومجدَّد في العهدة العمرية، ومكرَّس في نهج الدولة الأردنية المعاصرة.وحين تحدّث الملك عن هذا الدور، لم يكن يستعرض إنجازًا، بل كان يؤكّد رسالة مفادها أن حماية القدس لا تحتمل المزايدات، وأن الحفاظ على هويتها المتعدّدة ليس ترفًا سياسيًا، بل واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا ودينيًا.ليس دفاعًا عن الفلسطينيين فقط… بل عن البشريةجلالة الملك لم يتحدث عن فلسطين كقضية حدود أو نزاع سياسي، بل كاختبار للإنسانية. بيّن أن استمرار الصراع هو انهيار للمبادئ لا للاتفاقيات، وأن ما يُرتكب اليوم في غزة والضفة، لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يهدم ما تبقّى من جدران القيم في هذا العالم. وحذّر من أن اتساع العدوان الإسرائيلي ليشمل إيران هو تطوّر خطير لا تُعرف عواقبه، وقد يهدّد الشعوب كافة إذا لم يُكبح جماحه.خطاب ليس كغيره… بل وثيقة أخلاقيةالخطاب الذي ألقاه جلالة الملك يجب ألا يُقرأ ككلمة عابرة، بل كوثيقة إنسانية وأخلاقية شاملة، تصلح أن تُدرّس في الجامعات، وأن تُقرأ في الأمم المتحدة، وأن تُوزّع في المحافل الدولية. لقد كان بمثابة خارطة طريق أخلاقية، تُذكّر العالم بأن القيم ليست مجرد شعارات نُطيل بها بياناتنا، بل بوصلة علينا التمسك بها خاصة عندما تشتدّ العواصف.عبدالله الثاني… حين تصبح الزعامة إنسانيةلا أبالغ إذا قلت إن جلالة الملك عبدالله الثاني اليوم ليس فقط قائدًا سياسيًا، بل أحد الأصوات الأخلاقية النادرة في هذا العالم، الذي بات يفتقر للزعماء ذوي المبادئ الواضحة والرؤية الصادقة. إنه لا يسعى إلى شعبوية، ولا يلهث خلف تصفيق، بل يتحرك من موقع الإيمان العميق بقيمة الإنسان، وحق الشعوب في الحياة والحرية والكرامة.هو صوتٌ لا ينكسر. صوت يقول ما يجب أن يُقال، حين يصمت الآخرون. يحمل رسالته دون مواربة، ولا ينتظر مقابلًا. في زمن الأزمات، يكون الملك عبدالله الثاني رجل المرحلة، وحارس الضمير، وشاهد الحق.تصفيق لم يكن شكليًا… بل احترام عميقومما يعكس عمق الأثر الذي تركه الخطاب، أن قاعة البرلمان الأوروبي شهدت تصفيقًا حارًا ومتكررًا لجلالة الملك، في مشهدٍ نادر الحدوث في مثل هذه المحافل، إذ عبّر الحضور، بكافة توجهاتهم، عن احترامهم الكبير لهذا الصوت الصادق، وعن اتفاقهم مع مضامين الخطاب الأخلاقية والإنسانية. لقد كان التصفيق بمثابة اعتراف علني بأن ما قيل لم يكن مجرّد كلمات، بل حقائق لامست وجدانهم، ونبّهتهم لما هو على المحك.في الختام…بوصفي مواطنًا أردنيًا، أكتب من قلب صادق. لا أكتب لأجامِل، ولا لأصنع صورة. أكتب لأنني رأيت بعيني وسمعت بأذني وشعرت في أعماقي بأن جلالة الملك لا يمثلني فقط على المنصات العالمية، بل يمثّل إنسانيتي كإنسان، وضميري كعربي، وأملي كباحث عن العدالة في زمن عزّت فيه العدالة.إن ما يقوم به جلالة الملك عبدالله الثاني، من دفاعه عن القدس، ومناصرته للشعب الفلسطيني، وتأكيده على مركزية القيم في العلاقات الدولية، ليس دورًا سياسيًا فحسب، بل رسالة رسالية نادرة في هذا الزمن الرديء.وإنني، حين أرى ذلك، لا أملك إلا أن أقول: هذا هو الملك الذي نفاخر به العالم. هذا هو الأردن الذي لا يُقاس بحجمه، بل بثباته في وجه العواصف. وهذا هو القائد الذي لا يرضى أن يكون شاهد زور في زمن الصمت، بل يصرّ على أن يكون شاهد حق في وجه الباطل.رحم الله الملك الحسين الذي ربّى،وحفظ الله الملك عبدالله الذي أوفى،وأبقى الأردن دائمًا صادقًا في مسعاه، عزيزًا في مواقفه، شامخًا في ضميره.