قديسات يكتب: الوضع الوطني في سياق النزاعات الإقليمية – بقلم: نادر قديسات

قديسات يكتب: الوضع الوطني في سياق النزاعات الإقليمية – بقلم: نادر قديسات


لا يحتاج المرء في هذه الأيام إلى الكثير من الجهد ليلمس حجم الهجمة الممنهجة التي تستهدف الأردن في فضائه الإلكتروني، فمن يتتبع التعليقات والمحتوى الذي يُنتج حول الأردن، سيُصدم من سيل من الافتراءات والشتائم والتشكيك والسخرية التي تنهال على كل رمز ومكوّن وطني.كأردني، لا يمكنك أن تظل على الحياد أمام هذا المشهد فأما ان ترد وتنجر خلف ضلال الفتنه في محاولات للدفاع عن الوطن او ان تسمو بنفسك وبوطنك عن هكذا افتراءات هذا المشهد ليس تفصيلًا هامشيًا، بل يعكس معركة أكبر وأخطر معركة وعي، تُخاض اليوم بأدوات رقمية ناعمة، تُصوّب سهامها إلى العقل الجمعي، مستغلّةً فراغًا سياسيًا طويلًا ترك المواطن الأردني مكشوفًا في مواجهة الإشاعة والتشويه.لطالما شكّلت الوحدة الوطنية والجبهة الداخلية صمّام الأمان في مواجهة كل أزمة تعصف بالمنطقة، وها نحن اليوم نعيش لحظة حاسمة في ظل التصعيد المتسارع بين إسرائيل وإيران، بما يحمله من تداعيات تتجاوز الإقليم لتطال الداخل الأردني بأشكال مباشرة وغير مباشرة. وفي مثل هذه اللحظات، لا بد من إعادة التأمل في قدرة المجتمع الأردني على التعامل مع هذه التحوّلات، ومدى وعيه السياسي تجاهها.إن تشكيل الوعي العام داخل المجتمع الأردني، وفق تحليل موضوعي، ينبثق من ثلاث انساق رئيسية: الأسرة، والنظام التعليمي بمراحله المختلفة، ورجل الدين. غير أن هذه الأنساق الثلاثة، وعلى الرغم من دورها الحيوي في بناء منظومة القيم والمبادئ، تُعاني من غياب شبه كامل للخطاب السياسي الواعي. وحتى في حال وجود هذا الخطاب، فإنه غالبًا ما يبقى حبيس التنظير ولا يُترجم إلى ممارسات عملية تُرسّخ الثقافة السياسية لدى الفرد.هذا الفراغ أنتج مزاجًا عامًا يميل إلى النفور من العمل السياسي، بل ويزدريه في كثير من الأحيان، وهو ما يُمكن ربطه بشكل مباشر بتأثيره وتأثره بالظروف الاقتصادية الصعبة التي يُعاني منها المواطن الأردني وتُعمّق من عزلة الفرد عن السياسة، بما يُضعف إدراكه لطبيعة التحديات الإقليمية وأثرها على الداخل الوطني.وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الحملات الإلكترونية الممنهجة التي استهدفت مؤخرًا الأردن الرسمي والشعبي، والتي حملت في طياتها رسائل تشويه وتشكيك ومحاولات لخلخلة الثقة في مؤسسات الدولة والنسيج الوطني. ومع تصاعد التوترات الإقليمية، بات من الواضح أن هذه الحملات تسعى إلى ضرب الوعي الذاتي عند الأفراد عبر أدوات رقمية ناعمة تعمل على بث الإشاعة والتأثير النفسي، مستغلةً ضعف المناعة السياسية لدى فئات واسعة من المجتمع.من هنا، فإن بناء الجبهة الداخلية يتطلب الارتكاز على ثلاث ركائز: الوعي الذاتي لدى الافراد، والتعليم، والإعلام. هذه الثلاثية هي الكفيلة بصناعة الحصانة الوطنية وتعزيز إدراك المواطن للتحديات والمخاطر التي تحيط ببلده. والمشكلة الأساسية تكمن في أن الأنساق المذكورة — الأسرة، والنظام التعليمي، ورجال الدين — لا تؤدي الدور المطلوب منها في التوعية السياسية، ما يترك الأفراد عُرضة لتلقي الروايات المشوّهة والطرح الموجّه عبر الفضاء الإلكتروني.ونتيجة لهذا الغياب، نجد أن المواطن الأردني البسيط، رغم تمسّكه التاريخي بالقضية الفلسطينية، لا يملك إجابات واضحة عن أسئلة سياسية مفصلية. فعلى سبيل المثال، هنالك اتفاق جمعي بين الأردنيين بأن الكيان الصهيوني ما هو إلا كيان غاصب محتل لأرض فلسطين، ولكن: هل إيران عدو للأردن كما هو حال الكيان الصهيوني؟ ما طبيعة مشروع “الهلال الشيعي”؟ وهل تسعى إيران فعلًا لتحرير فلسطين، أم أن لها مشروعًا توسعيًا موازٍ لمشروع “إسرائيل الكبرى”؟ هذه التساؤلات وغيرها تظل حائرة، وتُظهر فجوة خطيرة في الإدراك الشعبي، وتنبّه لحاجة ملحة لدورٍ أقوى للمؤسسات التعليمية والإعلامية في ملء هذا الفراغ المعرفي.إن الوحدة الوطنية ليست شعارًا نُردده، بل حالة متكاملة تُبنى بالتربية السياسية، وتعزيز الثقة بين الدولة والمواطن، ورفع مستوى الوعي بالمخاطر الإقليمية وأثرها الداخلي. وفي زمن الحروب النفسية والهجمات الرقمية، يصبح الإعلام القوي والتعليم المتجدد والوعي الذاتي المُدرك للواقع، أدواتنا الأهم في الدفاع عن الجبهة الداخلية الأردنية، وضمان أن يبقى وطننا عصيًا على الاختراق، متماسكًا في وجه العواصف، ومُحصّنًا بالوعي. فإنّ ما نعيشه اليوم من تحديات إقليمية يجب أن لا يُنظر إليه كخطر فقط، بل كفرصة أيضًا لإعادة بناء الوعي الجمعي وصياغة مشروع وطني يعيد السياسة إلى فضائها التربوي والاجتماعي، ويُحصّن المجتمع من الداخل.