حسن فؤاد يسجل اسمه في تاريخ السينما من خلال سيناريو فيلم “الأرض”

عاش 5سنوات فى السجن فحوّله إلى مسرح ومرسم ودار نشر
خطفته الصحافة من الرسم فلم يترك إلا 50 لوحة
أول شيوعى يبنى ويزين مسجدا فى السجن
سر الحزن الدائم فى ملامح شخصياته رغم عشقه للحياة
أول من حمل لقب «المشرف الفنى» فى تاريخ الصحافة المصرية
في افتتاحية العدد الأول من مجلة “الغد” الشهرية الصادر في أول مايو 1953 كتب “الرفيق” حسن فؤاد – رئيس تحريرها ومخرجها ومنتجها وراسم شخصيتها – ما يشبه ” المانيفستو”، يشرح فيه لقرائها فكرة مجلته وأهدافها وما تحمله من توجهات مختلفة عن ما يعرفونه عن المجلات الثقافية العادية، وينبههم – من أولها – أنهم على موعد مع “معركة” وليس مطبوعة، مع طليعة مؤمنة برسالة الثقافة وليس مجرد كتاب وصحفيين مع مجلة صاحبة رسالة لا تسعى لربح وتجارة.. بحماس مناضل مؤمن بمبادئه ومستعد أن يموت من أجلها كتب : ” حول الفن الذي يقدم الحياة ويدفعها إلى الأمام اجتمعنا .. جلسنا معا لنصدر هذه المجلة إلى الذين يؤمنون معنا بأن الثقافة تؤكد كل ما عرفه الإنسان في تاريخه من حق وعدل وشرف، وأنها تراث خلفه لنا أناس علقت رقابهم وسلخت أطرافهم وقتلوا في الطريق”.
(1)
لم تكن “الغد” مجرد مجلة أو تجربة صحفية في حياة حسن فؤاد، بل كانت مشروع حياته وحلمه الكبير وخلاصة رسالته التي آمن بها وكافح لنشرها وإثبات صحتها، والمتجسدة في مقولته والعنوان الدائم لمقالته الفن في سبيل الحياة..
وتحولت المجلة إلى تجسيد عملى وترجمة حية النظريته وموقفه الفنى وفلسفة حياته، وتتلخص في أن الفن جزء من نسيج الحياة، وأن الحياة هي مادة الفنان وموضوعه، والفن لا يمكن أن يكون فنا بغير موضوع، والموضوع وحده لا يكفى لصياغة فن فقضية الفن هي الإنسان والبشر، ولا يمكن أن يكون هناك فن منفصل عن الناس.. إن رسالة الفن كما رأى هي تحرير الإنسان من الاستعباد والاستغلال والجهل والرجعية والتخلف…
ورغم إيمانه الراسخ بالفكر اليساري التقدمي إلا أن حسن فؤاد قرر منذ العدد الأول أن يكون ولاؤه الكامل للقارئ، لا لحزب ولا تيار ولا سلطة، وأن يفتحصفحات المجلة لكل فكر مستنير وقلم موهوب وعقل متوهج، حتى ولو كان على خلاف معه ولا يروق له…
وهي سياسة جزت على حسن فؤاد كثيرا من المتاعب والأزمات، سواء مع السلطة أو التيارات الرجعية، أو حتى مع تيار اليسار الذي ينتمى إليه، مما كان سببا رئيسيا في المشاكل والتعثرات التي واجهتها المجلة واضطرته إلى إيقاف إصدارها بعد العدد الخامس، بعد أن تحالف الجميع ضدها…
لكنه أبدا لم يتراجع أو يستسلم أو يغير قناعاته أو يتنازل عن مبادئه، فأعاد إصدارها من جديد في مطلع العام ۱۹۵۹، وتعطلت من جديد فأعاد إصدارها في مطلع العام ١٩٨٦، وكتب في افتتاحية العودة الأخيرة بنفس الحماس والتحدى من منا نحن الذين أصدرنا هذه المجلة قبل أكثر من ثلاثين عاما كان يحلم بأن “الغد” ستعود إلى الصدور مرة ومرات بعد كل هذه الأعوام الطويلة، من منا نحن الذين أصدرنا هذه المجلة سنة ١٩٥٣ والثورة المصرية ما زالت فى نضارة العام الأول يتصور أن نفس الكتاب والفنانين الرواد الذين أصدروها سيتجمعون مرة أخرى ليطلوا بأقلامهم على دنيا جديدة قد تغيرت بأسرع مما كان في حسباننا جميعا .. ونحن على العهد سنفتحصفحات هذه المجلة لكل أصحاب الموهبة والرأى من الكتاب والفنانين الوطنيين.. إنها ليست مهمة سهلة … ولكن طموحنا كثيرا ما كان أكبر من طاقتنا”.
كانت “الغد” حدثا فارقا في مسيرة حسن فؤاد وفي تاريخ المجلات الثقافية المصرية، فقد قدمت تجربة مختلفة شكلا ومضمونا، منحها صاحبها من روحه وموهبته وخبرته، فخرجت متفردة بلا شبيه، وهو ما عبر عنه الفنان الكبير محى اللباد عندما كتب:
و عرفت صفحات “الغد” قارئها بأسماء جديدة (أصبحت فيما بعد نجوم الحركة الثقافية الوطنية الجديدة كتاب وقصاصون وشعراء ورسامون وصحفيون، كما عرفتهم على مفهوم جديد للثقافة والفن، وعلى طرحجديد وذوق جديد خاصة الذوق البصري، عرفتهم على نوع مغاير من الصور الفوتغرافية والرسوم والخطوط والإخراج الصحفى، بل والورق”…
ورغم كل المتاعب التي عاشها وعاناها بسبب تلك التجربة، ورغم التعثرات والإغلاقات المتعددة والأزمات المتعاقبة، إلا أن صاحبها كان عارفا بقيمتها وتأثيرها، راضيا بما حققته من مكاسب معنوية، كان فخورا بها عندما كتب بقلمه عن التجربة
وكثير من أحلام الماضي تحول إلى حقائق، والبذور التي نثرناها لم تذرها الرياح ولم تذهب سدى، بل لقد تحولت إلى شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء”.
(2)
بعد “التحرير” و”الغد” تأتى تجربته الثالثة الأهم مع المجلة التي صدرت في العام ١٩٥٦ تخاطب القلوب الشابة والعقول المتحررة واشتهرت باسم “صباح الخير”…
وعندما اختاره رئيس تحريرها أحمد بهاء الدين المهمة تصميم المجلة الجديدة ووضع سياستها الفنية والبصرية كان عمر حسن فؤاد لا يتخطى الثلاثين من عمره، وكان قد اكتسب خبرات متراكمة من سنوات عمله بالصحافة والإخراج الفنى لعديد من المطبوعات مكنته من وضع تصور بصرى إخراجي يتفق ويتسق مع شخصية المجلة، بل يمكن أن نعتبره ثورة في شكل وتوضيب المجلات في تاريخ الصحافة المصرية…
ولذلك لم يكن اللقب المبتكر الذي سبق اسمه على ترويسة المجلة من فراغ، وكان المشرف الفنى” يستخدم لأول مرة بديلا عن الألقاب المتعارف عليها وقتها للمسئول عن توضيب المجلة مثل “سكرتير التحرير الفنى” و”الموضب” و”المنسق” و”رجل الماكيت”، وكان في اختياره للقب الجديد – المشرف الفنى محاولة لإرساء مفهوم جديد وتوصيف حديث لهذه المهمة، فلم يكن عمل حسن فؤاد مجرد توضيب للمجلة أو تنسيق موضوعاتها، إذ إنه لم يكن فقط يؤدى مهمة تسكين الموضوعات والصور والعناوين والاعلانات.. بل كان – بوصف اللباد – أقرب إلى عمل مخرج الفيلم السينمائي الذي يقود أشخاص وجهات فنية وجهات تقنية متعددة، ليحصل على فيلم يجمع بين كل هذه الأعمال في شكل موحد، ويكون حاملا لرؤيته وفكرته وبصمته…
وعندما يقول العارفون إن شكل الصحافة قبل حسن فؤاد شيء وبعده شيء آخر، فليس في كلامهم رای أي مبالغة أو مجاملة، فلقد تحت هذا الرجل في الصحافة المصرية لغة جديدة في اللغة البصرية، ويبدو أن هذه اللغة – مثلها مثل لغة الأنغام المسموعة – تتعامل مع مناطق في الوجدان أكثر عمقا من تلك التي تتعامل مع النصوص والكلمات المكتوبة، ولهذا تستطيع الأشكال البصرية المبدعة أن تثبت في الذاكرة وفي وجدان القارئ المحتويات الأساسية (الرسالة) النصوص المرتبطة بهذه الأشكال لزمن طويل، وتظل الرسوم والأشكال والتصميمات مفاتيح هامة للذاكرة.
استطيع أن تتكلم بإسهاب وتفاصيل عن الثورة الإخراجية التي قادها حسن فؤاد في الصحافة المصرية، وعن تجاربه فيها وفي القلب منها “صباحالخير”، التي تولى رئاسة تحريرها عام (۱۹۷۱)، والتي تسببت لنتائجها بما أدخله من ابتكارات في فن الإخراج الصحفي في توقف مجلات شهيرة مثل الاثنين والدنيا” و”الجيل” لم تستطع أن تواكب التطورات الجديدة.. ولكن يمكن بسهولة أن تستغنى عن الشرحوالإسهاب إذا ما راجعت وطالعت توضيب المجلات. التي تصدر الآن على امتداد العالم العربي، ستجد فيها روح حسن فؤاد وإبداعه، فهو الأب الروحي الذي سار الجميع على نهجه ودريه وخطاه ولمساته….
يرتبط بتجربته في الإخراج الصحفي ويتقاطع معها ويؤكدها ما أحرزه وأبرزه من تألق في رسوماته السفردة الأغلفة المجلة، والرسومات المصاحبة للأعمال الأدبية، وخاصة في أعمال رقيقه وصديقه وشريكه في الدعوة إلى الواقعية الجديدة ) الشاعر الأديب. عبد الرحمن الشرقاوي، والتي بدأت برواية “الأرض” عند نشرها مسلسلة عام ١٩٥٣، تم تواصل التألق في رواية “الشوارع الخلفية” التي نشرت مسلسلة بجريدة الشعب” عام ١٩٥٩، ورواية ” الفلاح” بجريدة الجمهورية سنة ١٩٦٧، وقبلها رسوماته البديعة القصيدة الشرقاوي السياسية الأيقونة ” من أب مصرى إلى الرئيس ترومان …
ولا ينسى قراء ذلك الزمان رسومات الهم حسن اروايات مهمة مثل الشمندورة” لمحمد خليل قاسم و العنكبوت” لمصطفى محمود، ولديوان فؤاد حداد الملهم “أحرار وراء القضبان .. وعشرات أخرى من الرسومات للقصص القصيرة والمسرحيات كانت ريشة حسن فؤاد سببا في نجاحها وانتشارها وشهرة مؤلفيها ونجوميتهم … فعندما صدرت رواية “الأرض” برسوماته الشخصياتها أصبحت وكأنها إبداعا موازيا النص لا ينفصل في وجدان القارئ عن الرواية ذاتها.
وربما عوضته تلك الرسومات عن تعطل مشروعه کرسام محترف كانت موهبته وأعمال البدايات تدل على أننا أمام فنان كبير ينتظره مستقبل واعد.. لكن الصحافية لم تترك له الوقت الكافي ابواصل مشروعه وليقف أمام لوحاته وليواصل إبداعه….
وربما لا تزيد جميع لوحاته الزينية – كما كتب صديقه وزميل دفعته الناقد التشكيلي المرموق مختار العطار على الخمسين إلا قليلا، أبدعها على طول المشوار الذي يقع بين عامي ١٩٤٨ إلى ١٩٨٥، لكنها على قلة عددها تمثل ثروة فنية رفيعة بما تحمله من إبداع وتفرد وروح مصرية خالصة، فرغم تأثره برسامين عالميين مثل بيكاسو وجوجان، ورغم زياراته العديدة الكثير من عواصم الفن التشكيلي العالمية مثل باريس ولندن وروما وموسكو، إلا أن جميع رسوماته ولوحاته و ملامح شخصياته ظلت تحمل النكهة والمذاق والروحالمصرية على الدوام…
(3)
أما التجربة الرابعة الفارقة في مسيرة حسن فؤاد فكانت مع الفن السابع، وكما ترك بصمته في كل الفنون التي مارسها عن الرسم إلى الكتابة، ومن الإخراج الصحفي إلى أغلفة المجلات والكتب، فإن بصماته امتدت إلى السينما.. ويمكننا هنا أن نشير إلى العلامات البارزة في تجربته السينمائية :
– سيناريو فيلم “الأرض” المأخوذ عن رواية عبد الرحمن الشرقاوى التي سبق له أن رسم أبطالها على صفحات الصحف بريشته، ثم عاد ليرسمهم في هذا السيناريو البديع الذي صار من أيقونات السينما المصرية، وهو الفيلم الذي أخرجه يوسف شاهين وقام ببطولته محمود المليجي وعزت العلايلي ونجوى إبراهيم وانتجته مؤسسة السينما عام ١٩٧٠.. وكان قبله قد كتب سيناريو وحوار التمثيلية التليفزيونية “طرقات في الليل” التي قامت ببطولتها سناء جميل وعبد الله غيث وأخرجها إبراهيم الصحن عام ١٩٦٥، وكتب بعده سيناريو فيلم سينمائي عن رواية “لا لمصطفى أمين أخرجه صديقه المخرج الجزائري احمد راشدي.
تأسيسه وإدارته للمركز القومي للأفلام التسجيلية عام ١٩٦٧، وتوليه بالرعاية جيلا من المخرجين الشبان أصبحوا نجوما فيما بعد (منهم رأفت الميهي وعلى عبد الخالق وأشرف فهمى وهاشم النحاس ومصطفى محرم)، ومن خلال تجربته في المركز أنشأ أول قسم الرسوم المتحركة، وأصدر أول مجلة سينمائية ثقافية حملت اسم الفن والحياة”.. وتحمس التجارب طليعية مثل فیلم مذكور ثابت ثورة المكن”، و”فن الفلاحين الذي أخرجه عبد القادر التلمساني عن تجربة الفنان ويصا واصف والفن التلقائي لصناعة السجاد في القرية “الحرانية”…
ولذلك لا تستغرب عندما يكتب ناقد سینمائی بحجم سمير فريد بهذا الحماس عن حسن فؤاد الذي تتعدد. مجالات إبداعه بحثا عن الشمول والعمق، فهو مناضل سياسي من أجل تقدم وطنه ورفاهيته، وصحفى يمتلك الحس بالقارئ والرغبة في تطور الصحافة من الناحية المهنية في نفس الوقت، وهو فنان تشكيلي له كتاب من أجمل كتب الفن العربية عن بيكاسو، وهو أديب وكاتب للنصوص السينمائية سوف يبقى له دائما سيناريو فيلم “الأرض”، وسيتعالي قدير كانت إدارته للمركز القومى للأفلام التسجيلية والقصيرة مع بدء إنشائه عام ١٩٦٧ نقطة تحول في تاريخ هذا النوع من الأفلام وفي تاريخ السينما المصرية”.
(4)
كان حسن فؤاد قادرا على أن يترك بصمته من الإبداع والتفرد حتى في السجن ووراء القضبان، حيث كان من بين الذين اعتقلهم عبد الناصر في حملته الأشد على الشيوعيين بسبب تأييدهم نظام عبد الكريم قاسم في العراق، وظلوا رهن الاعتقال من أبريل عام ١٩٥٩ ولخمس سنوات متصلة تنقل خلالها بين سجون ابي زعبل والفيوم والواحات، ورغم قسوة التجربة وما لاقاة من صنوف التعذيب لكنه قرر أن يقاوم هذا كله بالفن، وأن يحول السجن إلى مرسم ومسرح و دار نشر ومركز للإبداع والفنون
ما أقوله ليس من نسج خيالي، بل حقائق تؤكدها شهادات الذين عاشوا معه التجربة وكانوا زملاء له في آوردي أبي زعيل وسجن المحاريق بالواحات ورفاقه في تكسير البازلت في الجبل، ومنهم المفكر اليساري الكبير محمود أمين العالم، الذي أنقل عنه
راح حسن فؤاد يشارك في مقاومة هذا كله بالفن… صانع “الغد” القديم راح يصنع غدا جديدا مشرقا داخل ظلمة السجن لا أستطيع اليوم أن أستعيد قراءة مسرحية “وفاة بائع متجول ” دون أن أتصور حسن فؤاد في دور البالغ الذي قام بتمثيله تعديلا أكثر من رائع في سجن الواحات.. ولا أستطيع أن أستعيد
مسرحية “عيلة الدوغري” دون أن يتجسد “سيد” الأخ الأكبر في حسن فؤاد الذي مثله باقتدار لا أتذكر مسرحية “حلاق بغداد” إلا واري بغداد تتوهج بفن حسن فؤاد في ردهة عنير من عنابر سجن الواحات….
في الواحات جعل لنا حسن فؤاد من الفن من الرسم. من النحت من التمثيل، من الأخوة والأبوة والصداقة والرفاقية .. ليضا إنسانيا يرف بالمحبة ويحقق لنا السجن حرية إنسانية رائعة.. بنينا مسرحا كان حسن فؤاد من مهندسيه.. بنينا مسجدا راح حسن فؤاد
يجعله ويزينه ويجعل منه أية فنية ….
وهي شهادة يؤيدها ويؤكدها ما كتبه “الرفيق” فيليب جلاب”
وفي المعتقل حيث ينكفىء كثيرون على أنفسهم كان حسن فؤاد عندما سمحت الظروف يرسم وينحت ويدرب ممثلين هواة ورسامين مبتدئين وفنانی أراجوز ويسهم في إقامة مسرح في الصحراء، ويقرأ وينصح كتابا وفنانين لم يسبق لهم قبل الاعتقال أن تعاملوا مع هذه الفنون الجميلة”..
وبلغ من تفاؤله أن قرر – في السجن – تأسيس دار نشر أطلق عليها اسم “دار الغد” وجعل شعارها “الثقافة للحياة”، كان يتولى كل المهام فيها، يكتبها ويرسمها ويخرجها وينشرها من نسخة واحدة ليتداول المعتقلون قراءتها …
وحتى وهو في السجن مقيد الحرية ويعاني من الإنهاك الروحي والجسدى ومن آلام الربو وحصوات الكلى لم ینس دوره كفنان وكأستاذ وكأب روحي لمن هم خارج السجن، فكان يتابع أعمالهم من خلال ما يصل إلى السجن من صحف ومجلات، ويرسل إليهم بملاحظاته ونصائحه ورأيه مثل هذا الخطاب الطويل الذي أرسله إلى زميله وصديقه وتلميذه الرسام الموهوب جمال كامل، ولعلك تدرك روح حسن فؤاد العظيمة وأنت تقرأ هذه السطور
رأيت رسومك الأخيرة في “روز اليوسف” – الناس والبطيخ ربما كانت الشيء الأصيل الذي ذكرني بمجلتنا القديمة.. جمال الاختيار وذكاء التلميح ورصانة التعبير وقليل من الجنس والمهم أنك مازلت ثابتا على موقفك من المدرسة الواقعية ومن الاسلوب أيضا، وهذا عظيم في زمن نرى فيه مسألة الفن الحديث تطل علينا من الصحافة وتستولى على منح التفرغ وتستثير اهتمام الناس فجأة ثم سرعان ما تنهار ثقتهم في كل المدارس حتى لقد أصبحت الفنون التشكيلية الآن كمسألة هيئة التحرير والاتحاد القومى.. أسخف تعبير عن أعظم معنى، وبالطبع تقف أنت وحدك مع قليل من الفنانين وسط هذا الجنون الذي يحمل من ادعاء الثقافة أكثر مما يحمل من الجدية في خلق فن وطنى عظيم في بلد ما زال نصفه لا يعرف القراءة ومعظمه لا يعرف ما هي اللوحة الزيتية .. لعلني أطلت عليك ولكن شوقى للحرية هو السبب.. تحياتي إليك وأشواقي وثقتي في الله وأصدقائي لن تتوقفوا عن المطالبة بالإفراج عنى… حاشية صلاح حافظ سيفرج عنه بعد شهرين ومعه روايتان و مسرحيتان وعديد من القصص القصيرة كلها تشيد بهذه الموهبة التي نضجت وأن لبلادنا أن تجنى ثمارها”.
ونظرا لفرادة وتأثير تجربة السجن الطويلة على روحوريشة وشخصية حسن فؤاد فقد أفرد لها الفنان والناقد التشكيلي المرموق عز الدين نجيب فصلا من كتابه القيم “فنانون وشهداء” جعل عنوانه “حسن فؤاد.. باب السجن باب الخلاص، حكى فيه كيف حول السجن – الذي هو ذروة القهر الإنساني – إلى طاقة إبداع قهرت السجن والسجان
كانت سنوات الاعتقال في صحراء الواحات ميلادا جديدا له امتحانا قاسيا لمعتقداته وحبه للوطن وللشعب.. كان أول ما رسمه في السجن هو لوحة على باب الزنزانة من الداخل.. تحولت إلى طاقة حب لكل المعتقلين تجاوزت بهم القضبان إلى آفاق الحرية والحياة.. لم يتوقف بعدها عن الإبداع، إن دفتر اسكتشاته فى السجن مليء بصور القهر والمعاناة طابور التكدير مسح البلاط العقاب الجماعي بالوقوف الطويل في مواجهة الحائط، لكن قسوة السجن لم تقهر روحه، فرسم نفسه منتصبا داخل الزنزانة في شموخ مثل عبد الهادي في “الأرض” تطل عليه في المقابل عيون بهية ووصيفة من باب الزنزانة”.
(5)
بعد خمس سنوات وراء الأسوار عاد حسن فؤاد إلى الحياة، لم يعلق بقلبه أي إحساس بالحقد والمرارة ولم يغير السجن قناعاته الراسخة بالإشتراكية، وبالفن في سبيل الحياة، ولم يزلزل إيمانه بالواقعية الجديدة كمذهب في الفن والرسم.
ولكن الملاحظة الجديرة بالتأمل والتوقف في لوحات ورسومات حسن فؤاد كرسام، إنه رغم شخصيته النهمة للحياة، الفياضة بالحب والأمل والبهجة والتفاؤل المحبة للأطفال لم ينجب رغم زواجه مبكرا عام ٤٩ من حب عمره السيدة رضا حسين فاعتبر كل الأطفال أطفاله والشيكولاتة وحياة الليل ومباهج الدنيا، إلا أنك من العسير أن تلتقى بشخصيات سعيدة مرحة في رسوماته التصويرية، ثمة مسحة من الحزن تكسو وجوه شخصياته، ربما لأنه كان يعيش المجتمع المصرى بقلبه ووجدانه وألوانه وريشته، ويعرف ما تحت سطحه وما في أعماقه، ومع ذلك فإن هذا الحزن في الوجوه كان ممزوجا بحالة من الصلابة والتحدى والأمل..
كانت ريشته الواقعية – كما يقول رفيق عمره صلاححافظ – تستمد الحبر والألوان من آلام الإنسان، لكنها كانت أيضا تحلم، وكانت تلمح وراء البؤس الإنساني نبل المقاومة، ولم يكن يصرفها الألم عن الابتهاج بالحياة ذاتها، وكأنه يؤكد لهم المعنى العظيم الحياة أروع من اليأس..
حسن فؤاد نفسه كان تجسيدا وتجليا لهذا المعنى العظيم: لا يأس مع الحياة، وما أروع وأصدق كلمات رفيقه عبد الرحمن الشرقاوى فيه وعنه وإليه:
سأظل أذكر طريك لكل عمل جميل وشريف، وسأظل أذكر طربك لكل دعوة حب، ولكل ومضة أمل، ولكل إبداع يضيف إلى الحياة…