لورد كتشنر: المفوض البريطاني الذي أقال الخديو عباس الثاني بخطوة كتابية

شخصيات لها تاريخ «73»
والده كان ضابطًا فى الجيش البريطانى باع رتبتهالعسكرية.. وأمه كانت ابنة واحد من القساوسة المعروفين فى عصره
دقّ أول مسمار فى نَعْش خديو مصر الأخير ببرقية أرسلها إلى المعتمد البريطانى.. وهو المسئول عن حرمانه من دخول مصر
تولَّى منصب سردار الجيش المصرى وهو يعادل منصب رئيس الأركان وفرض سيطرته بدعم من كرومر وضباط إنجليز وخاض صراعًا ضدّه الضابط الوطنى محمد ماهر وكيل الحربية تولى أعمال مسح أرض فلسطين ورسم خرائط لها مازالت المرجع لترسيم حدود بلاد الشام ونُشرت فى ثمانية مجلدات
تولى أعمال مسح أرض فلسطين ورسم خرائط لها مازالت المرجع لترسيم حدود بلاد الشام ونُشرت فى ثمانية مجلدات
الإمبراطورية البريطانية قامت على غزو الشعوب وقتل الآلاف من البشر، ونهب الثروات الطبيعية، وكان لها فريق من العسكريين الدمويين المؤمنين بالتاج البريطاني والنعرة العرقية التي ترى الرجل “الأبيض” قائدا ومرشدا للعالم الهمجي والهمج في أعراف هؤلاء اللصوص. مقصود بهم الشعوب الآسيوية والأفريقية، وهذه الروح الصليبية التي امتدت من العصور الوسطى حتى القرن العشرين، كان من رموزها وصانعيها لورد كتشنر الذي ظهر في المسرح السياسي والعسكري في بدايات القرن التاسع عشر – في مصر والسودان – وتولى منصب المعتمد البريطاني في القاهرة، وتولى منصب رئيس أركان الجيش المصرى بعد الاحتلال وتسريح الجيش الوطني وهو نفسه الذي كتب برقية احتجاج ضد الخديو عباس حلمي الثاني كانت المبرر لعزله عن عرش مصر في العام 1914، وهو العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى بين دول الحلفاء ودول المحور
هربرت کنشتر او اللورد كنشنر دخل تاريخنا المصرى والعربي باعتباره واحدا من جنود الاستعمار البريطاني رغم أنه عاش في إقليم “أيرلندا” الذي تار ورفض الخضوع للتاج البريطاني الغاصب، ولكن العائلة التي انحدر منها – كتشنر كانت عسكرية كنسية، والده كان ضابطا، وأمه ابنة كاهن، وكان والده الضابط، قد باع الرتبة التي يحملها واشترى أرضا في أيرلندا، ثم انتقل ومعه أسرته إلى سويسرا، حيث تلقى – هربرت – تعليمه في مونترو، ثم التحق بالأكاديمية العسكرية الملكية وقاتل في صفوف الفرنسيين في حربهم ضد بروسيا وكانت مشاركته هذه سببا في توبيخ تلقاه من الأمير جورج – دوق يورك – قائد عام الجيش البريطاني وكان – هربرت كتشنر ضابطا بسلاح المهندسين العسكريين، وكلفه الجيش البريطاني بعملية مسح أرض فلسطين ورسم خرائط لها في فترة الانتداب البريطاني وقام بإعداد الخرائط الطوبوغرافية المطلوبة، وكان ذلك في العام ١٨٧٤، ونشرت هذه الخرائط والمعلومات التي جمعها – كتشنر – في ثمانية مجلدات، ومازالت تمثل المرجع العلماء الآثار وعلماء الجغرافيا، وفي العام ۱۸۷۹ أصبح نائب القنصل البريطاني في الأناضول، وفي العام ۱۸۸۳ تمت ترقيته إلى رتبة “النقيب”، وحصل على رتبة تركية تعادل رتبة الرائد، وارسل إلى “مصر” ليعمل ضمن الجيش المصرى الجديد الذي أنشئ عقب سقوط مصر في قبضة الاحتلال البريطاني وتسريح جيش عرابي الوطني الذي قاوم جيش بريطانيا وتزعم ثورة الشعب المصرى ضد الاستعمار الأوربي، وأصبح “كتشنر” القائد الثاني في كتيبة سلاح الفرسان في الجيش المصرى الجديد، وشارك في حملة فاشلة إلى السودان للحرب ضد “محمد أحمد المهدى قائد الثورة في السودان، وكان “كتشنر” فى الفترة ذاتها قد أتقن الحديث باللغة العربية ومعرفة اللهجات المحلية العربية في مصر والشام والسودان، وفى العام ۱۸۸۵ أصبح حاكم المقاطعات .
الخاضعة للسلطة المصرية – في شرق السودان والبحر الأحمر، وخاض معارك ضد “جيش الأنصار” التابع للمهدي وهو الجيش الذي أطلق عليه المصريون لقب “جيش الدراويش”، وهم جنود الثورة المهدية التي استهدفت تحرير السودان من الحكم المصرى التركي الأوربي معتمدة على نظرية المهدى المنتظر” الذي يؤمن به قطاع من المسلمين ويعرفون عنه مرويات تؤكد أنه يأتي في آخر الزمان ليقيم العدل في الأرض ويقضى على قوى الشر والعدوان.
ورأى المعتمد البريطاني في مصر – آنذاك – ضرورة الإفادة من خبرات هربرت كتشنر، فاختاره ليكون المفتش العام في الشرطة المصرية فى العام ۱۸۹۰، وبعد توليه منصب “سردار الجيش المصرى”، أي رئيس أركان برتبة أمير آلاى أو عميد في أبريل ۱۸۹۲، وفي الفترة ذاتها التحق كتشنر” بالمنظمة الماسونية، وبلغ رتبة المعلم الأكبر في مصر والسودان في محفل لاكونكورديا التابع للمحفل الاتحادي في إنجلترا.
مقاتل ضد المهدى
كانت الحركة المهدية – أو الثورة المهدية – في السودان في الفترة من ۱۸۸۱ إلى ۱۸۹۹، وكان شيخها رجل دين صوفی هو: محمد أحمد المهدي، وكان له جيش يضم أتباعه المجاهدين، أطلق عليهم لقب الأنصار، وأطلقت عليهم حكومة مصر لقب الدراويش، لأن الدرويش في مصر هو التابع لطريقة من طرق الصوفية، وأنصار المهدى كانوا من الصوفية المجاهدين في سبيل الله ضد الكفار والغزاة – من المصريين والأوربيين – وكان السودان خاضعا بقوة السلاح للوالي “محمد على” منذ العام ۱۸۲۱، وهي الفترة التي تعرف في تاريخ السودان باسم الاحتلال التركى المصرى، لأن محمد على كان يحكم باسم السلطان العثماني، وكان فتحه للسودان بهدف الحصول على الثروات التي فيه وتجنيد رجاله في الجيش الذي أسسه ليحقق به حلمه في بناء إمبراطورية عربية تتحدى الإمبراطورية البريطانية وتنازعها في الأسواق والإنتاج والتصنيع والهيمنة على الموارد الطبيعية في الشرق الأوسط، لكن بريطانيا، دمرت هذا الحلم الإمبراطوري، وفى العام ۱۸۹۹ أصبحت شريكة مع مصر في إدارة السودان بموجب اتفاقية الحكم الثنائي التي جرى توقيعها عقب القضاء على الحركة المهدية بقوة مسلحة بريطانية مصرية بقيادة “كتشنر”، وكان کتشنر نفسه مشاركا في حملة بريطانية أرسلت لدعم غوردون باشا” وقتل “غوردون”، ولكن كتشنر أحرز النصر النهائى وأنهى الحركة المهدية وقتل ما يزيد على العشرين ألف مقاتل سوداني، وجرح الآلاف وأسر الآلاف وقصف قبة المهدى” التي كانت في أم درمان، وأنشأ “كلية غوردون” التي هي جامعة الخرطوم في الوقت الراهن، وأنشأ خطوط السكك الحديدية التي ربطت بين مدن السودان، وأقام الجسور بين الخرطوم وأم درمان وبنى القصر الجمهوري الذي مازال قائما حتى اليوم في الخرطوم.
سردار الجيش المصرى
بعد هزيمة الثورة العرابية، تم تسريح الجيش الوطني باتفاق بين الخديو الخائن محمد توفيق” وقادة الجيش البريطاني والمعتمد أو مندوب التاج البريطاني، وكان منصب سردار، هو الأكثر أهمية لأنه يعنى “رئاسة الأركان” والسيطرة على كل مفاصل القوات والكتائب وامتلاك قرار القتال والاستعداد له، وكان هربرت كتشنر من الذين خدموا التاج البريطاني في الهند وفلسطين والسودان ومصر، فاستحق أن يكون “سردار الجيش المصري” في الوقت ذاته كان الخديو الشاب عباس حلمي الثاني، وريث الخديو الخائن محمد توفيق یعانی آثار خيانة والده ويريد أن يكون الخديو الحاكم الأمر الناهي في مصر، ولكن الاستعماريين الكبار لم يمكنوه من تحقيق حلمه، وكان صدامه الأول مع قادة الجيش المصرى بسبب اختياره الضابط الوطني محمد ماهر، ليكون وكيل نظارة الحربية، وكان هذا الضابط الوطني الغيور على كرامة بلاده وكرامة الجيش، استطاع الحصول على بيان بمرتبات الضباط الإنجليز العاملين في الجيش المصرى، وهى تفوق ما يتقاضاه الضباط المصريون، ورفع الأمر إلى الخديو الشاب عباس حلمي الثاني، وكان ذلك سر انزعاج كتشنر” وبداية الصراع بينه وبين “عباس حلمي الثاني” والضباط المصريين الرافضين للهيمنة البريطانية على الجيش والسلطة في مصر، ومن الذين رصدوا هذا الصراع بين الخديو والسردار رجل كان هو المسئول عن ديوان الخديو هو “أحمد شفيق باشا، وكتب عن جذور وأصل هذا الصراع في مذكراته، واصفا ما جرى في رحلة الحدود. وهي رحلة قام بها الخديو عباس” وتفقد الجيش وأبدى ملاحظات على مستوى تدريب الجنود، والفجر الموقف ليخرج عن السيطرة ويصبح أزمة سياسية كبرى، ولنقرأ ما كتبه شفيق باشا الشاهد على الواقعة وما حدث بعدها.
تحرك البحت قاصدا وادي حلفا فاستقبلنا بها “السردار” وكبار الضباط والموظفين والأعيان، وبعد الاستراحة سار الركب إلى ميدان الاستعراض، فشاهدنا حركات الجنود وهي ثلاث اوزط “ثلاث كتائب سواري، وأورط هجانة مصرية، وأخرى سودانية، وبطارية مدافع جبلية وبطارية استحکامات، وأورطنا بيادة “مشالاً” مصرية وأخريان بيادة سودانية، وبعد الاستعراض، قال سموه – الخديو عباس – لكل من قومنداني “قائدي البطاريتين:
السلاح نظيف والمرور منتظم….
وعند مرور الأورطنين الثانية والحادية عشرة، التقت . الخديو – إلى ماهر باشا وكان بجواره وقال له:
إن هؤلاء الجنود في حالة تدعو للخجل.
وقال القومندان “قائد” الأورطة الثانية الإنجليزي:
التي أسف لأن سير هذه الأورطة ليس حسنا كسير الأورط الأخرى، ولكنني أمل أن يتحسن حال جنودك أكثر من ذلك..
وأبدى سموه هذه الملاحظة على الأورطة الحادية عشرة. وصرح بذلك السردار کنشتر باشا” وقال:
إنني أمدح كل ضابط يقوم بواجباته، وألوم كل ضابط يقصر في ما عليه نحو فرقته.
ويضيف “أحمد شفيق باشا” قوله:
وعلى أثر ذلك اعتقد “السردار” أنه يجب عليه تقديم استقالته وصرح بذلك للخديو، فقال له شفوه
التي لا أقصد توجيه انتقادات شخصية إليك، ولكنني فعلت ذلك مدفوعا يحيى الجيشي الذي أنا رئيسه وأحب اقدمه، ولهذا لا أفهم لماذا تتحدث عن الاستقالة وتريد أن تعطى الأمر خصوصی معنی سیاسیا
وعند ذلك عدل كشر عن الاستقالة، ولكنه أرسل ضابطا إلى “كرومر” ليشرح له تفاصيل الحادث، هذا فضلا عن برقية أرسلها إليه.
وأمر الخديو “عباس” من جانبه بإرسال برقية إلى “رياض باشا” رئيس الحكومة، وفي هذه الليلة أقام الخديو مأدبة الجيش، ولم يغادر “البحث” بحجة انه يشكو صداعا شديدا من تأثير حرارة الشمس، وفي “الشلال ” كان بالنظارنا كنشتر باشا ولويد باشا وضباط أركان حرب الجيش وعدد كبير من المستقبلين، ثم عاودنا السير إلى أسوان، وكان “كنشتر” قد سبقنا إليها، ولما تشرف بمقابلة الخديو أخبره أن الضباط الإنجليز بالأورطتين الثانية. والحادية عشرة ممتعضون، وفي عزمهم الاستقالة، فقال له سموه:
اكثر لك أن لاشيء في نفسى من ناحيتهم، ولكن إذا أصروا على رغبتهم هذه فأخبرني برقيا حتى أفكر فيما يجب عمله وليس عندي ما أضيفه، على ما قلته، لأنني فعلت ذلك في حدودي المشروعة …
فقال “كتشنر باشا”:
یا مولاي… لحن لا تعلم ما هي حدودكم، ومع ذلك فسأعمل على تهدئة الخواطر.. وبارحنا “الأقصر” إلى قنا ومنها إلى جرجا، وهناك وجدنا في الاستقبال رياض “باشا” رئيس النظار و بطرس غالى باشا” ناظر المالية و محمود شكري باشا” رئيس الديوان التركي، وقد حضروا خصيصا لمقابلة “الخديو” لأن “كرومر” قابل رئيس النظار، وهدد بخلع “الخديو عباس” إذا لم يسحب انتقاداته، واحتج “مختار باشا” الذي سبق له زيارة الحدود، فأثنى على الجيش المصرى وضباطه كما أخبره “كرومر” بأن برقية من اللورد روزيري – وزير خارجية بريطانيا – وردت ويقول فيها:
إذا رفضت مصر إجابة المطلب، أضطررنا إلى اتخاذ الوسائل الفعالة لوضع الجيش المصرى تحت قيادة جيش الاحتلال.
ولقد دهش “الخديو ” لتطور المسألة على هذا النحو وخروجها عن وضعها البسيط إلى مثل هذا الوضع السياسي الواسع، وبعد التشاور تقرر أن يرسل “رياض باشا” برقية إلى ناظر الخارجية لإبلاغها إلى “كرومر” حسما للمشكل وهذا نصها:
إن الجناب الخديوى المعظم قد اندهش وشق عليه ما عساه يكون، فقد قيل بشأن رحلة جنابه إلى الحدود وقد حفظ لنفسه الحق في تقرير حقيقة الواقع فيما بعد. ولكن لما كان جنابه العالي يهمه ألا يكون هناك ريب في تعلقه بجيشه، فلذلك يشره أن يكرر صدور الأمر للسردار للإعراب عن حسن رضائه عن جيوشه وعظيم الامتنان الذي شمله حين تفقدهم.
ا غضب إنجليزي
وحسب ما ذكره أحمد شفيق باشا” وما أورده من نصوص مكتوبة وما نقله من أحاديث الخديو عباس، تظهر لنا طبيعة الصراع، فالذى حدث من جانب الخديو عباس كان مقصودا به تأكيد تبعية الجيش له، وتأكيد أنه القائد الأعلى الذي يحق له التوجيه والنقد والرفض والقبول في كل الشئون العسكرية، وكان رد الفعل البريطاني من جانب لورد كتشنر سردار الجيش المصرى” ومعه كرومر المعتمد البريطاني والضباط الذين لم يعجبهم اللوم الذي أبداه “الخديو” بخصوص مستوى تدريب وأداء الجنود وهو مبالغ فيه مبالغة مقصودة، حتى يتحول الحادث إلى مبرر لتكسير أجنحة الخديو وضباطه الوطنيين المصريين الرافضين هيمنة الإنجليز على الجيش، ورمزهم الواضحهنا هو “محمد ماهر وكيل الحربية الذي اختاره الخديو ليكون عينه الساهرة داخل الجيش فيرصد ما يقوم به كتشنر” ورجاله الإنجليز، ويضيف “شفيق باشا” في مذكراته تفاصيل أخرى تثبت حرص المعتمد البريطاني وسردار الجيش على تحطيم إرادة الخديو
وركبنا القطار جميعا إلى الفيوم، وهناك أبرق لنا تیجران باشا بأن كرومر لا يرى في برقية – “رياض باشا” الترضية التي يريدها، وأنه لابد من اعتذار الخديو نفسه مع عزل “محمد ماهر باشا”، عندئذ رأى الخديو أن الغرض من ذلك هو إحراجه والضغط عليه فأراد المعارضة ولكن رياض “باشا” أفهمه خطورة الحالة خصوصا بعد تهديدات “كرومر” وروزبرى وزير الخارجية البريطاني وذكر له أن قنصل فرنسا الجنرال – المركيز دي رفرسو لا يريد التدخل، واكتفى بأن رجا “اللورد كرومر” بألا يغالي في طلباته، وأنه يجب التسليم بطلبات “كرومر” واضطر الخديو إزاء هذا الخطر إلى القبول، فبعث إلى – كتشنر البرقية الآتية:
قبل أن أترك الوجه القبلى وأعود إلى مصر، أريد أن أكرر ما أظهرته من العناية وحسن الالتفات للجيش عند زيارتي للحدود، وأؤكد حسن رضائي الذي أبديته لكم من جهة حسن حالة الجيش ونظامه، وإنني لمسرور من أن أهنئ الضباط الذين يرأسونه مصريين كانوا أو إنجليز وإننى لمرتاح أيضا بأن أقدر الخدمات التي أداها الضباط الإنجليز لجيشنا حق قدرها وأملنا – أيها السردار – أن تعلنوا أمرنا هذا للضباط والعساكر.
ولكن “كرومر” تشبت بنشر هذه البرقية باللغة العربية في الجريدة الرسمية بعد نشرها بالنص الفرنسي، فاجيب إلى هذا الطلب.
وحدت ما أراده “كيشنر سردار الجيش المصرى الغاضب من كلمات محمد ماهر وكيل الحربية وانتقادات الخديو عباس للقوات التي شهد عرضها العسكري في جنوب مصر، كبر الخلاف، وصار صراع إرادات وتمدد فأصبح أزمة دبلوماسية، ودخل “روزبرى” وزير الخارجية البريطاني على خط الأزمة، واشتركت الصحف المصرية والبريطانية في المعركة، فنشرت “جريدة الأهرام” ما يثبت وجود تواطؤ بين الحكومة أو النظارة المصرية التي يرأسها رياض “باشا” وقالت إنها تواطأت ضد “الخديو عباس” لصالح الاحتلال البريطاني وجعلته عرضة لاعتداءات الإنجليز:
إن الضباط والعساكر المصريين سينتهي بهم الأمر إلى ألا يعرفوا رئيسا عسكريا سوى كتشنر باشا” ولا رئيسا سياسيا سوى اللورد كرومر.
وعلقت صحف بريطانيا على ما جرى وهاجمت الخديو عباس، واعتبرته المعتدى على كرامة الضباط الإنجليز وأن اللورد كرومر لم يرد الإهانة للخديو بالشكل المناسب.
كتشنر يعزل عباس
ومن المعروف في تاريخ عائلة محمد على أن “عباس حلمي الثاني” حاول استعادة هيبة الخديو الجالس على العرش معتبرا نفسه مختلفا عن والده الخائن محمد توفيق الذي استدعى الإنجليز ليحموا عرشه من الجيش الوطني والشعب الثائر بزعامة أحمد عرابي ورفاقه… وكان عباس يرى أن الإنجليز لم يقدموا له شيئا، واستند إلى الحركة الوطنية وقائدها مصطفى كامل واستند إلى الصحافة، وكان الشيخ على يوسف هو الناطق بلسانه ولسان السلطان العثماني في مواجهة الاحتلال البريطاني وانتهى الصراع بين كرومر والحركة الوطنية في العام ۱۹۰۷، ورحل كرومر عن مصر بعد ما أقدم عليه من قمع وإرهاب للفلاحين في دنشواى ١٩٠٦.. وفي العام ١٩١١ تولى لورد كتشنر” منصب المعتمد البريطاني بعد وفاة غورست”، وأصاب الحزن قلب “الخديو عباس”، وأحس بضعف موقفه حتى أنه فكر في الاعتزال، لكن الإنجليز حرموه من تحقيق هذه الأمنية الغالية، وكان “كتشنر” محل تقدير الصحافة البريطانية إن اللورد كتشنر عين في هذا المنصب لأنه من أعظم الذين وضعوا أساس مركزنا فى مصر، وعمل عمل عظماء رجال الإدارة الذين كانوا قبله، ولكن كانت النتيجة السقوط في هاوية من الارتباك والتشويش بسبب سياسة “السير” الدون غورست” الذي كان قد أرسل لتطبيق سياسة، اعترف هو في تقريره بخطئها، ومهمة كتشنر” فك هذا الارتباك وإعادة النظام وإعادة الإرهاب مع نشر التمدن.
وكتبت صحيفة الديلي جرافيك
إن هذا الشعب المصرى” ساخط على الدوام، وجاحد ومرتكن على ما يعتبره حقاً له، وهو شعل حرر من رق العبودية ولكنه يعادى المصالح الإنجليزية…
ويرسم لنا “أحمد شفيق باشا” رئيس ديوان الخديو عباس حلمي الثاني مشهد الختام في قصة الصراع بين الخديو والمعتمد البريطاني أو “عباس وكتشنر” بسطور أوردها في مذكراته
في يومى ۲۰ و ۲۱ ديسمبر ١٩١٤ جاءت أخبار تنبئ بأن الحماية الإنجليزية أعلنت على مصر، وأنها صارت سلطنة، وأن البرنس “حسين كامل” عين سلطانا عليها بلقب صاحب السموّ، وأنه احتفل به أمس بموكب خرج من سرای نعمة الله هانم افندى زوجة نجله “كمال الدين باشا”، وأن الأهالي تلقوا هذا “الانقلاب” بدون اهتمام وأن جلالة ملك إنجلترا أنعم على البرنس “حسين كامل” بنيشان الحمام، وأنه بالنظر لكون “الخديو عباس” انضم إلى أعداء الملك، فقد حرم من الرجوع إلى مصر، ولكن حفظت أملاكه الخصوصية.
العجيب أن الشعب المصرى ابتكر هتافا يقول “الله حي.. عباس جي”.. ولم يأت عباس، وظل كفاح الشعب مستمرا حتى خرج الاحتلال بتضحيات الشهداء وبطولة الجيش الوطني في خمسينيات القرن العشرين.