مى حمدى منصور تتناول «عالم» عمها شاعر النصر ومؤلف «حدوتة مصرية»

عبد الرحيم منصور رفض طلب السادات بأن يكتب قصيدة هجاء فى الأبنودى
والدته هى سر عبقريته.. وماتت بعد رحيله ب 40 يومًا فقط
هذه حكاية منصور مع بليغ ومنير وأحمد منيب
الأغنية أخذت عبد الرحيم منصورمن شعر العامية الذى برع فيه
لم تعاصر الشاعرة والكاتبة الصحفية مي منصور عمها الشاعر الغنائي الكبير الذي كتب أجمل أغاني نصر أكتوبر، وصاحب البصمة الخاصة والحضور الطاغي في تاريخ الغناء المصرى عبد الرحيم منصور.. لكنها حين كبرت قليلا عرفت وفهمت وأدركت أن أباها الشاعر المبدع حمدى منصور قد أوقف حياته عند محطة رحيل شقيقه الأكبر عبد الرحيم فلم يغادرها … وكأنه قرر أن يرحل مع أخيه في اليوم الثامن والعشرين من شهر يوليو عام 1984 حين مات عبد الرحيم… هنا قررت في ألا توقف حياتها كما فعل والدها.. بل تبحث وتفتش وتحيى تراث عمها لتحكى عنه الكثير… وفي هذا الحوار تفتح لنا مي قلبها وتحكى عن عمها الكبير عبد الرحيم منصور.
سألت مي عن محطة البداية والنشأة في حياة عمها المبدع الاستثنائي فقالت:
ولد عبد الرحيم منصور في أسرة بسيطة جدا بقنا.. والده هو الحاج منصور عبد الرحيم، ووالدته هي السيدة زينب الخلاوى وهى مربط الفرس ومكمن السر في موهبة عبد الرحيم ومن بعده شقيقه حمدى.. هذه السيدة الجنوبية البسيطة جدا كانت شاعرة طوال الوقت.. ترتجل الشعر طوال الوقت. حساسة جدا.. تقول لابنيها الشعر بعفوية وتلقائية من باب تسليتهما. أول شخص تأثر به عبد الرحيم كان أمه التي أهدى لها أول دواوينه الرقص على الحصى).. وهو قال عندما صار شاعرا معروفا إنه وهو طفل صغير كان يعتقد أن أغانى والدته أمام الفرن هي التي تنضج الخبز وتطهو الطعام الجمال وروعة هذه الأغاني.. فقد كانت تغنى كلاما موزونا ومقفى وله معنى وذا صور شعرية بديعة، وعلى هذه الأغاني تربى عبد الرحيم منصور رغم صغر عمره آنذاك.. ثم إن البيئة التي نشأ فيها منصور كان لها أثر كبير جدا عليه وعلى تشكيل شخصيته الشعرية.
في قنا كانت الطقوس الاحتفالية بالمولد النبوي الشريف ومولد سيدي عبد الرحيم القناوى مسألة معروفة وكذلك عازفو الربابة ومن يغنون السيرالشعبية والمواويل.. كل هذه الموروثات الشعبية أثرت في نشأة عبد الرحيم منصور وذائقته ووجدانه. وكثيرا ما سمعت من عماتي كيف استقبلن ولادة عمى ومن بعده والدي اللذين ولدا بعد خمس بنات.. ومن أجل الحفاظ على الولد من الحسد كانت الطقوس الشعبية بأن يخرموا له أذنه.. ويلبسوه (حلق)… ويضعوا في إحدى قدميه خلخالا فضة وفي القدم الأخرى خلخالا ذهبا. ويضعوا على وجهه رماد الفرن فلا تظهر ملامحه.. ثم تسير معه سيدة و (تلف) به على البيوت وهي تشحت به… تطرق كل باب وتقول شحتوا الشحات فيعطون الطفل نقودا أو خبزا أو دقيقا … وقد حدثت هذه الطقوس تماما مع عمى ثم والدى.. والتي كانت (تلف) بهما سيدة بسيطة كانت تساعد جدتي
عبد الرحيم منصور الذي أسموه عبد الرحيم تيمنا بسيدي عبد الرحيم القناوى عاش كل هذه الطقوس في تلك البيئة الجنوبية ومع الأم التي تغنى وتنشد شعرا .. فكان لابد أن يكون شاعرا كبيرا.
وهناك فى القاهرة كانت كتيبة مجلة صباح الخير تجتمع واقترح الصحفى الشاب لويس جريس أن تسعى المجلة الناشئة آنذاك لاكتشاف المواهب بأن تذهب إليهم وتكتشفهم في بلادهم وتقرر أن يذهب لويس جريس إلى الصعيد، وأن يذهب عبدالله الطوخي إلى الوجه البحرى.. وجاء لويس إلى قنا بالقطار باحثا عن مواهبها، وجلس على مقهى معروف وسأل عمن يكتب الشعر أو من يعزف الموسيقي أو عمن يرسم وقال له أحدهم.. سیاتی شاب صغير أسمر نحيل يمكن أن يدلك على من تريد.. وجاء عبد الرحيم منصور يرتدى جلبابا بسيطا وسأله لويس جريس عمن يكتب شعرا أو قصة أو يرسم أو يعزف الموسيقى فاصطحبه أولا إلى بيت أمل دنقل في قرية القلعة بقفط، فقالوا لهما إنه سافر إلى القاهرة، فعاد به مرة أخرى إلى بيتهم بقنا، وبات لويس ليلته الأولى في بيت عبد الرحيم منصور، ثم اتجه به إلى بيت الأبنودي ليسأل عن الأبنودي ويحيى الطاهر عبدالله، وكان يعرف أن يحيى الطاهر جاء من الأقصر إلى قنا ويقيم مع الأبنودي في بيته فقيل لهما إنهما هما الآخران قد سافرا إلى القاهرة.. وبات لويس جريس ليلة أخرى في بيت عبد الرحيم منصور، وقد أسره كرم الأسرة الصعيدية وبساطة البيت، وذهب عبد الرحيم مع لويس إلى محطة القطار، وبينما يتأهب القطار للانطلاق دس الشاب الأسمر النحيل يده في جيبه وأخرج بضعة أوراق وأعطاها للويس جريس قائلا له: أستاذ لويس. هذه بعض قصائدي.. وودعه وانطلق القطار.. وقرأ لويس القصائد واندهش من جمالها واندهش أكثر كيف لم يكلمه عبد الرحيم ولم يقدم نفسه له وهو شاعر موهوب وحقيقي، وعاد لويس جريس إلى القاهرة، وكتب على صفحات “صباح الخير” مقالا قال فيه: احضر يا عبد الرحيم منصور إلى القاهرة فسوف تفتح لك بابها. و “صباح الخير” ترحب بك.. وقد كان.. قرأ عبد الرحيم ما كتبه لويس جريس وقرر أن يأتي إلى القاهرة باحثا عن حلمه.
ا بلديات
تواصل می منصور حكاية عمها وتقول: في القاهرة وجد عبد الرحيم منصور نفسه وحيدا أعزل إلا من موهبته… يعيش وحده ويسير في شوارع المدينة بمفرده، بينما تعود في قنا على الونس والدفء والناس الطيبين والبيوت التي تعرف بعضها.. لكنه في القاهرة عاش في غربة وغرابة شديدتين.. البدايات كانت في منتهى الصعوبة على شاب صعيدي لا يعرف أحدا.. افتقد بساطة الحياة وصدق البشر وطبائعهم الطيبة في قنا.. وعاش في المدينة الكبيرة التي لا يعرف الناس فيها بعضهم البعض. ولذلك ورغم النجاح والشهرة بعد ذلك.. فقد لازم عبد الرحيم منصور حنين دائم لقنا وزاد ارتباطه بعائلته وأسرته ووالدته وإخوته، وتواصلت زياراته لقنا دون انقطاع.. وربما لم يخفف من غربة عبد الرحيم قليلا سوى علاقة مودة ومحبة وصداقة مع أبناء بلده الأبنودي وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله
فهم أولاد بلد واحدة.. وعندنا في الصعيد “بلدياتي” تعنى الكثير.. الصعيدي لديه من الأصل ما يجعله يموت فداءً لابن بلده وينصره ظالما أو مظلوما.. ولا تصدق أي كلام آخر غير ذلك.
وعندما اختلف الرئيس الراحل أنور السادات مع عبد الرحمن الأبنودي طلب من عبد الرحيم منصور كتابة أغنية أو قصيدة يهجو بها عيد الرحمن الأبنودي.. فرفض رفضا قاطعا.
واحترم السادات حب عبد الرحيم و احترامه لابن کاره و ابن بلده
ومنحه وساما وقلادة وشهادة تقدير….
وكان عبد الرحمن الأبنودي أول المتواجدين في منزل عبد الرحيم منصور وقت وفاته.
شاعر الأغنية الوطنية
وينتقل الحوار إلى محطة مهمة في حياة عبد الرحيم منصور، وهي علاقته الفنية بوردة وبليغ حمدى وأغانيه الوطنية التي لحن بليغ الكثير منها لتجيب مي منصور
برغم الأغاني الكثيرة التي كتبها عمى لوردة، لكن لا يمكننا أن نقول إنه ارتبط بها فنيا، لكنه في الحقيقة ارتبط ببليغ حمدى، وبالتبعية كتب لوردة وعفاف راضي اللتين لحن لهما بليغ الكثير من الأغاني، تماما كما كتب لشادية ونجاة وغيرهما آنذاك.. بليغ لديه جملة لحنية حاضرة.. وعبد الرحيم منصور لديه جملة شعرية حاضرة التقيا وكانا متفقين جدا فنيا وإنسانيا وهما صديقان منسجمان على الصعيد الإنساني والاجتماعي فنجحالتعاون بينهما وشكلا ثنائيا ناجحا وصارت الأغاني الوطنية التي كتبها منصور ولحنها بليغ مثل “وأنا على الربابة بغني ” لوردة و “بسم الله الله أكبر بسم الله” للمجموعة ويا “أم الصابرين” لشادية وغيرها عنوانا لهذا التعاون الناجح بين عبد الرحيم وبليغ، وبالمناسبة ارتباط منصور بالأغاني الوطنية لم يكن مرتبطا بأي منفعة أو مقابل لعبد الرحيم هو كتب كل هذه الأغاني الوطنية لأنه رجل أحب وطنه وكتب له، وأحدث نقلة نوعية حقيقية في الغناء الوطني بدون أن ينتظر مقابلا.. بل بالعكس هو كان يرى أن الوطن أعطانا الكثير بشكل مسبق، وأنه لابد لكل أبنائه أن يعدوا أياديهم لبلدهم وأن يردوا له الجميل
مع منير ومنيب
وماذا عن تجربة عبد الرحيم منصور مع محمد منير وأحمد منيب ؟
تقول من منصون تجربة عبد الرحيم منصور مع محمد منير وأحمد منيب هي التجربة الأكثر ثراء وقنا، وهي أعمق كثيرا من تجربته مع بليغ .. تجربة المرت فنا عاش وسيعيش طويلا.. علاقة هذا الثلاثي العبقري بدأت في أسوان وليس في القاهرة.. والحكاية بدأت مبكرا حين اضطرت جدتي إلى نقل على عبد الرحيم في المرحلة الثانوية من قنا إلى أسوان ليعيش مع إحدى شقيقاته بعد أن نقلت حياتها إلى هناك، وهناك تعرف منصور على فاروق بازيد شقيق منيز الأكبر وراعى موهبته، وكان منير طفلا وقتها.. وحين انتقل عبد الرحيم إلى القاهرة كان فاروق مع شقيقه منير الذي أصبح طالبا يكلية الفنون التطبيقية كما كان أحمد منيب قد انتقل هو الآخر إلى القاهرة ليجتمع الثلاثي عبد الرحيم وملير ومنيب ليتيني عبد الرحيم موهبة منير ويحدث التعاون الفني والنجاحوالطلاقة منير الفنية.. حين كتب عبد الرحيم منصور المثير أهم أغانيه في البداية مثل “شجر الليمون والكامي وغيرهما، وكتب له أغاني أول البوماته علموني عليكي) كاملة، ثم شارك في كتابة البومه الثاني (شبابيك)، بينما تولى منيب للحين عدد كبير من تلك الأغاني… وبشكل واضح تبنى عبد الرحيم منصور محمد علين، وحين كان يقدمه الأصدقائه يقول لهم ولدي محمد منير.. وقد قدمه لهاني شنودة ليحدث التعاون الناجح بين منير وفرقة المصريين. ويهمني هنا أن أقول إن فاروق بازيد كان يمتلك صوتا ذهبيا لكنه استثمر حلمه في أخيه الأصغر منير.. وكان عبد الرحيم منصور هو الذي ساهم في تحقيق هذا الحلم بالنصيب الأكبر.
حدوتة مصرية
لماذا حققت أغاني عبد الرحيم منصور كل هذا النجاح، بينما لم يحقق شعره العامي نفس النجاحولم يصدر في حياته إلا ديوانا وحيدا
هو الرقص على الحصى)؟
تجيب في ملصون في رأيي أن نجاحأغاني عبد الرحيم منصور يتلخص في قدرته على عمل تركيبة عبقرية من كلمات سهلة وبسيطة، لكن من الصعب جدا أن يستطيع تضفيرها في هذه التركيبة إلا مبدع عبقري.. خد عندك مثلا أغنية حدوتة مصرية التي غناها منير بامد ابدى ال… طب ليه ما تقبلنيش، لا يهمني . اسمك… لا يهمني عنوانك لا يهمني لونك ولا ولادك.. مكانك.. يهمني الإنسان.. ولو ملوش عنوان… كلمات بسيطة لكن أن يتم عمل أغنية منها بهذا الجمال، فلا يستطيع ذلك إلا صاحب موهية بحجم عبد الرحيم منصور، والأمر نفسه ينطبق على أغلب أغانيه مثل بكرة يا حبيبي وحبيبي يا متغرب وباحلم معاك والبحر اسكندراني ويا وعدى ع الأيام وربك هو العالم وغيرها… سر نجاحه أيضا هو ارتباطه بجذوره وبموروثه الثقافي والشعبي… وجعلته السهلة البسيطة التي يقولها الناس في الشارع.
أما بالنسبة لإصداره دیوان شعر وحید في حياته فلانه انشغل في مشواره الفني. والغنائي انشغالا تاما، لكنه كان يكتب القصيدة العامية بشكل مميز وجميل ورائع جدا وله قصائد كثيرة جدا عظيمة لم ينشرها، وله ديوان كتبه بعد النكسة قصائده كلها سياسية ترفض وتنقد. وصودر قبل أن يطبع، وقد ضمنت كل هذه القصائد والديوان الذي صودر ضمن أعماله الكاملة التي جمعتها وصدرت منذ سنوات.
بين الناس
أسأل مي منصور ماذا عن رباعيات منصور، وهل ثمة علاقة بينها وبين. رباعيات صلاح جاهين؟
تجيب من عبد الرحيم منصور يعبر في رباعياته عن تجارب حياتية، وهي بالطبع تختلف تماما عن رباعیات صلاح جاهين فلكل واحد منهما ثقافته وموروله وتجربته الخاصة….
وكيف ترين إسهامات عبد الرحيم منصور في كتابة السيناريو لبعض الأعمال مثل مسلسل مارد الجبل وفيلم المزمار العاطف الطيب؟
تقول في طريقة عمى في كتابة السيناريو كانت مميزة جدا في الحقيقة هو كان يكتب جملا شعرية لو وضعتها إلى جوار بعضها فمن الممكن أن تقترب من أن تكون قصيدة.. هو كان يكتب السيناريو كشاعر وليس کسیناریست وله بصمته ككاتب سيناريو وحوار
لو تحدثنا عن عبد الرحيم منصور الإنسان.. ماذا تقول ابنة شقيقه؟
تجیب می کان عمى رجلا بسيطا جدا صادقا في أحاسيسه.. محبا للناس… علاقته طيبة وجميلة بكل من حوله… شخص تحب عشرته.. صاحب صاحبه. ارتبط بموطنه الأول في قنا ارتباطا شديدا. أحب جذوره وأسرته ومنبت ولادته ونشأته الأولى. وكانت وصيته هي أن يدفن في بلده قنا وآخر كلمات كتبها كانت
سقفة للغريب.. سقفة راجع عن قريب… سقفة للحبيبة.. سقفة راجعة للحبيب.
وبالفعل.. بعد هذه الكلمات رجع عبد الرحيم منصور إلى بلده الحبيب عن قريب.
ابن موت
تواصل مى أصدقاء عبد الرحيم منصور قالوا لى ذكرياتهم عنه.. قالوا إنه كان يبدو دائما على موعد.. متوتر وعجول طول الوقت.. دائما ينظر في ساعته ويأكل شفتيه ويهز قدميه. أحيانا كثيرة ينهض من جلسته مع الأصدقاء وكأنه نسى موعدا هاما جدا مع فتاة جميلة… ليخرج من المكان مسرعا مستقلا أقرب قطار ذاهب للصعيد ليتفاجأ الجميع بوجوده.. ينشر البهجة في كل مكان وينام ليلة، وفى اليوم التالي يكون قد عاد القاهرته وشوارعها…
يشبه كثيرا الرجال الطيبين الذين تملأ سيرهم ساحات الذكر والحضرة.. فلا يحسب لشيء.. يوزع نقوده على كل من حوله ويقول إنها ليست له وإنما هي أمانة بعثها له الله ليرسلها لأصحابها… يحب مداعبة الأطفال.. يحب عمل كل شيء بسرعة شديدة وكأنه يعلم أن أيامه يجب عمل دل قليلة .. ففي يوم واحد كان يلف محافظة قنا بالكامل ولا يهدأ إلا بعدما يمشي في كل شوارعها ويصافح كل من فيها سواء أكان يعرفه أو لا يعرفه.. باختصار عبد الرحيم منصور كان ابن موت.
تضيف مي كان عبد الرحيم ابنا بارا ليس بأمه وأبيه فقط.. وإنما بكل من يحيطون به..
أكبر مشاكله مع زوجته هي أنه كان ينفق كل ما يملك على أصدقائه وعائلته وبيته بالطبع خاصة بعد أن أنجب ابنته علياء التي كانت هي الأخرى بنت موت فرحلت شابة منذ سنوات بعد أن حققت حلمها في أن تكون أستاذة جامعية بكلية الآداب، وكانت زوجته تود لو أن كل ما كان يملكه عبد الرحيم يكون لبيته فقط…
هو شخص كريم جدا بطبعه.. كريم في عواطفه وحنانه وحبه وقربه وأيضا بعده.. فعندما اختار البعد سافر أبدا…
عشق التراب الذي تخطو عليه أمه… ودائما ما أشاد بصبرها وحكمتها وحنوها وقوتها .. ويكتب قائلا إن عينيها هي من تمليان عليه الشعر.. عيناها السر والكنز…
كان ينحت في الصخر حتى تفخر به… ويملأ لها تلك العينين فرحة وشرفا… وعلاقته أيضا بأخواته البنات كانت جميلة جدا وكذلك بأولادهن الذين مازالوا يحكون عنه.. منهم من رأه وعاش معه بعض الوقت، ومنهم من توارث حكاية عنه فما زال يتناقلها …
أما شقيقه حمدى فكان توأم روحعبد الرحيم.. وعبد الرحيم أنفاس حمدى في شهيقه والزفير.. لدرجة أن بعضا من كلمات الأغاني التي نسمعها إلى الآن ونحبها ونرددها بدأها حمدى وأكملها عبد الرحيم أو العكس.. وجائزة حمدى عندما ينطلق صوت الإذاعة في آخر الأغنية بجملة كلمات الشاعر الكبير عبد الرحيم منصور”.. نعم إلى هذا الحد.. كان الحب وكانت الحياة التي أخذها عبد الرحيم معه…
أذكر هذه الحكاية.. زار حمدى شقيقه عبد الرحيم كعادته في شقته بالمهندسين وكان حمدي يزور عبد الرحيم كثيرا جدا رغم أنه كان يسافر ربما مرتين أسبوعيا من قنا للقاهرة والعكس، وقال عبد الرحيم الحمدي: أريد أن أكتب أغنية عاطفية غير تقليدية.. لا وجود فيها للمفردات العاطفية المعتادة عن قلب الحبيبة أو جمالها أو سمارها، ثم دخل إلى المطبخ ليعد كوبين من الشاي هنا فكر حمدى للحظات.. في ذلك الوقت كان سفر المصريين إلى الخليج للعمل في ذروته… ولكل عائلة شباب مسافرون يعملون بدول الخليج.. ربط حمدى بين هذه المسألة والحب بين فتاة وفتي.. وأمسك بعلبة سجائر قطعها ثم التقط قلما أمامه وكتب على ورقة علبة السجائر
جاب لك إيه يا صبية.. حبيبك لما عاد
جاب لى عقد وجلابية.. وقال لى كفاية بعاد
جاب لك إيه يا صبية.. حبيبك لما عاد
جاب لي قلب أخضر على كفي.. وقال لى كفاية بعاد.
ثم ترك الورقة وفتح باب الشقة وانصرف ليعود إلى قنا، وجاء عبد الرحيم وقرأ مقدمة الأغنية الرائعة، وعبنا حاول اللحاق بحمدي ليسأله عما كتب أعجبته الكلمات فأكملها لتغنيها عايدة الشاعر وتنجح نجاحا منقطع النظير.. بعدها وحين كانت تذاع الأغنية كثيرا ويقول المذيع أو المذيعة بعد انتهائها: غنت عايدة الشاعر من كلمات عبد الرحيم منصور تلتمع عينا حمدى ويرفع صوت الراديو عاليا ويعيش أسعد لحظاته فأقول له بعض الكلمات كلماتك فيقول وإيه يعنى.. أنا وعبد الرحيم واحد …
وهنا أسال مي عن هذا التماهي بين الشقيقين عبد الرحيم وحمدی، فتجيب
حين كان أبي يحكى عن شقيقه الأكبر تامع عيناه وتفيضان بالدموع.. ويقول جملة لا قبلها ولا بعدها.. عبد الرحيم هو أنا.. وحين مات عبد الرحيم أصيب حمدی باكتئاب شديد جدا وأوقف حياته أو بالمعنى العامي قفل حياته عند يوم ۷-۲۸- ١٩٨٤ يوم رحيل عبد الرحيم لتظل حياة حمدى متوقفة فعلا منذ ذلك اليوم البعيد وحتى رحيله هو الآخر في ٢٢ يناير عام ٢٠٢٢.. والحقيقة أن علاقتهما كانت جميلة جدا وفريدة جدا وجميل أن تكون علاقة الأخ بأخيه بهذه الدرجة من القرب ومن الصدق، لكن ليس جميلا أبدا أن يوقف الأخ حياته تماما عند يوم رحيل أخيه.
اليوم الأخير
من حكاوى والدها وعماتها حدثتنا مي منصور عن اليوم الأخير في حياة عبد
الرحيم منصور فقالت
ذلك يوم لم يكن عاديا كما كل أيام الصعيد الهادئة الراضية.. لم يكن يوما بل صار حياة بائسة بلا أمل عاشها من بعده كل من ارتبط به وعاشره.. كان نهاية لحياة أحدهم.. وموت جزء من روحآخر.. ودمار وانهيار…
٢٨ يوليو سنة ١٩٨٤.. فجر السبت رن جرس تليفون منزل والدته وانطلق من الهاتف نحيب وفاء زوجة عبد الرحيم منصور.. ولم تنطق بشيء سوى نحيب ليأخذ من يدها سماعة التليفون الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي والذي كان أول الحاضرين ويخبرها بأنهم قادمون في الطريق إلى قنا ومعهم ابنها البكري وفلذة كبدها… وعندما سألته عن عبد الرحيم وسبب مجيئهم ونحيب وفاء.. أخبرها بأن عبد الرحيم ودع الحياة منذ دقائق..
هي أيضا ودعت الحياة في التو واللحظة..
٢٧ يوليو ١٩٨٤.. ليلا يجلس عبد الرحيم منصور منسجما مع بليغ حمدى يتحدثان على أوتار العود وصوت بليغ وأشعار عبد الرحيم، ويستأذن الأخير من بليغ قائلا بلهجته الصعيدية البكر بقولك إيه هروحأضرب تليفون لأمي أتطمن على أحوالها وعلى اخواتي وأسمع صوت حمدى”…
وبالفعل تحدث إلى أمه التي طالما ذكرها في أشعاره.. السيدة الصعيدية المعجونة بطين الأرض.. سمع صوت أمه في عجالة وطلب يسمع صوت أخواته البنات سأل أيضا عن أولادهن، وأخذ يداعب كلا منهم بجملة.. ولم يتبق أحد لم يسمع صوته . سوى “حمدي… الأخ الأصغر لعبد الرحيم. منصور.. الهادئ الشارد الثائر المسالم الذي تعلقت روحه بأخيه الأكبر فعاشها وعاش بها…
ولكن للأسف كان شاردا في شوارع محافظة قنا كعادته كطير المغربية. سمع عبد الرحيم أصوات أحبائه إلا صوت حمدي.. وكأنه يأبى توديعه…
صباح السبت ٢٨ يوليو ١٩٨٤ كان يوما طويلا بل أعواما طويلة وثقيلة.. فقد في هذا اليوم الكثيرون بوصلتهم… واتجاههم في الحياة.. بموت عبد الرحيم منصور فقدت جدتي عقلها وسافرت له بعد مرور أقل من أربعين يوما من تاريخ الوفاة..
ففى اليوم الأربعين من وفاة عبد الرحيم كانت هناك جنازة أخرى تشيع في محافظة قنا وهي الست زينب.. التي فقدت عقلها وحياتها بوفاة بكريها .. وهناك من مات بلا مراسم تذكر.. مات في هدوء…
حمدى منصور الشاعر الكبير.. الذي كان الجميع يرونه صامتا دائما.. عندما تلقى خبر وفاة أخيه لم يبح بغضب ولا اعتراض ولم يذرف دمعه واحدة…
استغرب الجميع صموده وردة فعله.. لم يصدق ما حدث ولم يصدق من يقول له إن عبد الرحيم لم يعد في الحياة، فصنع حياته الخاصة التي عاشها بمفرده حتى لحق بتوأم روحه.. وأخيرا نختم الحوار بهذا المقطع من قصيدة كتبتها مي في عمها عبد الرحيم تقول فيها:
بيقولوا الميت إحساسه أكثرم الحي وأنا دايما روحك حواليا وف كل مكان
إيدك بتطبطب على روحي وكتفى البردان
وعيونك تلمع في السماوات كما في فضى بيقولوا الميت إحساسه أكثر م الحي.