Straw: A Tragic Tale of Violence Against Marginalized Women in American Society

فيلم يسلط الضوء على الوجه الأكثر هشاشة وقسوة في التجربـة الأمريكية
في زمن تتصاعد فيه الأصوات المنهكة من قسوة الواقع، ويغدو الانهيار النفسي فعلًا جماعيًا أكثر منه حالة فردية، يأتي فيلم Straw ليعيد تسليط الضوء على الوجه الأكثر هشاشة وقسوة في التجربة الأمريكية المعاصرة. الفيلم يحمل توقيع تايلر بيري، وتمثيلًا صادقا واقعيا من تراجاي بي. هينسون، وهو ليس مجرد دراما عن امرأة على حافة الانهيار، بل مرآة لمجتمع مشروخ يواصل تجاهل الألم المتراكم تحت السطح، نتيجة الضغوط الحياتية والاحساس بالعجز عن تحقيق أبسط المتطلبات الحياتية لأبنائنا، من علاج وتعليم ومسكن وملبس.
يأخذنا تايلر بيري إلى يوم واحد فقط من حياة «جينايا ويلكنسون»، أم عزباء تقف على الحافة، تكدّ يوميًا لتوفير العلاج والحد الأدنى من الحياة لطفلتها المريضة، وسط عالم لا يرحم. في صباح عادي، تبدأ سلسلة إهانات ومصاعب تبدو صغيرة في ظاهرها، لكنها مدمّرة في تراكمها: إنذار بالإخلاء، خصومات من الراتب، وقاحة الزبائن، وتجاهل الإدارة لمعاناتها.
لكن ما يبدو كروتين مرير يتحول خلال ساعات إلى دوامة من الانهيارات: تُطرد من عملها، وتُسحب ابنتها من حضانتها قسرًا، وتُجبر على مواجهة عنف الشرطة والبيروقراطية. وفي لحظة مأزومة، وبين فوضى سطو مسلح في المتجر، تقتل أحد المهاجمين دفاعًا عن النفس، وتجد نفسها فجأة داخل بنك مجاور، محاصَرة، محاطة بالرهائن، وسط اتهامات بأنها تهدد الجميع. ويتحول الموقف إلى مواجهة إعلامية وأمنية معقّدة، لكن وسط التوتر، تنشأ لحظات تضامن إنساني بين جانيّا وبعض النساء في البنك، في محاولة لفهم ما دفعها إلى هذا الفعل.
بهذا المنعطف الحاد، لا يعود الفيلم مجرد قصة عن امرأة تنهار، بل يصبح مرآة مأساوية لنظام قاسٍ أنتج هذا الانفجار. جانيّا لم تكن مجرمة، بل ضحية عالم أعمى عن الألم، حتى صرخ بصوت مسموع.
في مجتمع يُمارَس فيه التهميش على مستويات عدة من الفقر، إلى التمييز، إلى الإهمال المؤسساتي، يأتي هذا الفيلم ليصرخ باسم من لا صوت لهم. يقدم المخرج تايلر بيري من خلال Straw» « بيانًا فنيًا حادًا عن العنف غير المرئي الذي يمارس يوميًا على النساء المهمشات، وكيف يمكن للانهيار النفسي أن يكون نتيجة حتمية لغياب العدالة والرحمة.
الأهمية أيضاً تنبع من التوقيت؛ ففي زمن تتفاقم فيه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويزداد القلق الجمعي، يأتي الفيلم كمرآة عاكسة لهذا التوتر، محذرًا من أن «القشة» التي قد تكون الاخيرة أقرب مما نعتقد. وهذا ما يجعل الفيلم يتجاوز كونه دراما نفسية ليصبح عملًا ذا بعد اجتماعي وسياسي، يمكن أن يُستشهد به في نقاشات حول العدالة، والصحة النفسية، والعنف المؤسسي، وتمثيل المرأة في السينما.
Straw امتداد طبيعي لمسيرة تايلر بيري السينمائية، التي لطالما انشغلت بتجسيد معاناة المهمشين، وخاصة النساء السوداوات، ضمن إطار درامي يوازن بين الواقع المؤلم والانفعال العاطفي. وكما في العديد من أفلامه السابقة، يواصل بيري في هذا العمل استخدام أسلوبه الخاص الذي يمزج بين الميلودراما والواقعية الاجتماعية، لكن هذه المرة بنبرة أكثر حدة وجدّية، وبتجريد شبه كامل من الكوميديا التي عادةً ما تبرز في معظم أعماله.
يطبق بيري أدواته المألوفة: الشخصية الرئيسية المضغوطة حد الانفجار، الصراع مع المجتمع والمؤسسات، التصعيد المتسارع نحو الذروة العاطفية بجرأة أكبر ومخاطرة فنية أوضح. فالبطلة هنا لا تبحث عن الخلاص الروحي أو الغفران، بل تواجه انهيارًا نفسيًا يولد من رحم الظلم المزمن، في تجسيد مباشر لفكرة «القشة التي قصمت ظهر البعير».
يُثبت Straw أن بيرى، رغم ما يقال عن نمطية أسلوبه، قادر على تطويعه ليتناسب مع قصة أكثر قتامة وصرامة، دون أن يفقد اسلوبه الخاص. بل إن الفيلم يمثل تطورًا ناضجًا في مشروعه الفني، لأنه لا يكتفي بإثارة التعاطف، بل يطرح غضبًا مشروعًا، ويحول قصته إلى شهادة اجتماعية وسياسية، لا مجرد حكاية شخصية.
أداء تراجاي بي. هينسون في الفيلم يمثل واحدة من أكثر لحظاتها توترًا وجرأة على الشاشة، ويُعد تطورًا واضحًا في مسيرتها الفنية، التي لطالما تأرجحت بين الأدوار الدرامية المعقدة والشخصيات القوية التي تقاوم الانكسار.
منذ بداياتها، أثبتت هينسون قدرتها على أداء أدوار نساء صلبات، غالبًا ما يجدن أنفسهن في قلب الصراعات الاجتماعية أو العائلية، كما رأينا في أفلام مثل Hustle & Flow (الذي نالت عنه ترشيحًا لجائزة الأوسكار) وThe Curious Case of Benjamin Button كما لمع نجمها بشكل خاص في مسلسل Empire بشخصية «كوكي لايون» الصاخبة والجريئة، التي منحتها شعبية واسعة بفضل مزجها بين العاطفة الحارقة والحدة اللفظية.
لكن في Straw تتخلى هينسون عن أي زينة درامية أو استعراض شخصي، وتغوص في أداء شديد التقشف والتوتر، تجسد فيه شخصية امرأة مكسورة من الداخل، تُدفع بالتدريج نحو حافة الانفجار. لا تعتمد هنا على حضورها الكاريزمي أو حدة طباع الشخصية، بل على الانكسار الداخلي، النظرات المتوترة، وانفجارات الغضب المكبوت التي تأتي أشبه بانهيارات حقيقية. يمثل Straw أحد أكثر أدوارها نضجًا وتمكنًا من أدواتها كممثلة. وإذا كانت أعمالها السابقة أظهرت قوتها الظاهرية، فإن هذا الفيلم يكشف قدرتها على تجسيد الاهتزاز النفسي وضعفها الإنساني، وهو ما يجعل أداءها هنا مختلفًا وأكثر تأثيرًا. هو ليس الأداء الذي يسعى لنيل الإعجاب، بل الذي يتركك مشوشًا ومتألمًا ومتجسدا معها حد البكاء، تمامًا كما أراد بيري أن تشعر.
رغم أهمية Straw وجرأته في طرح قضايا حقيقية ومؤلمة، فإنه لا يخلو من مشكلات فنية تضعف تأثيره وتحد من قوته كعمل سينمائي متكامل. أول ما يُلاحظ هو الاعتماد المفرط على الميلودراما، وهي سمة مألوفة في أعمال تايلر بيري، لكنها في هذا الفيلم تصل أحيانًا إلى حد التكلّف الذي يؤدي للشعور بالملل، مما يجعل بعض اللحظات تفقد مصداقيتها لصالح التأثير العاطفي الزائد.
السرد في الفيلم يعاني من الإفراط في التصعيد دون بناء كافٍ. فبدلًا من أن تتصاعد الأحداث تدريجيًا وتُكشف دوافع الشخصية بشكل منطقي، نجد الفيلم يندفع بسرعة نحو الذروة العاطفية، ما يجعل الانهيار الذي تعانيه البطلة يبدو في بعض الأحيان مفاجئًا، أو غير مبرر دراميًا بالشكل الكافي، خصوصًا في النصف الأول من الفيلم.
كذلك، ورغم قوة أداء تراجاي بي. هينسون، لم يمنح الإخراج الشخصيات الثانوية عمقًا يُذكر، فبقيت كثير من الشخصيات سطحية ووظيفية، موجودة فقط لدفع الحبكة إلى الأمام دون أن يشعر المشاهد بثقلهم الدرامي أو تأثيرهم الإنساني على البطلة. مديرة البنك مثلا لم نعرف خلفيتها او شخصيتها رغم كونها محورية، فكان وجودها باهتا وغير مقنع.
السيناريو، بدوره، يميل إلى المباشرة والوعظية في بعض الحوارات، مما يضعف الإيقاع الطبيعي للفيلم، ويجعل بعض المشاهد أقرب إلى الخطب منها إلى مشاهد درامية حية. كما أن النهاية جاءت مشحونة إلى درجة جعلتها تبدو مصطنعة، وبدا كأن الفيلم يحاول «فرض» رسالة ما، بدلًا من السماح لها بالتشكّل العضوي من خلال الأحداث.
هذه ليست المرة الاولى التي تعالج السينما حياة المستضعفين فهناك افلام اخرى مثل «الجوكر» و»محطة فروتيفال» مثلا يتفقان مع الفيلم في الفكرة العامة.
تبرز أوجه الشبه بين Straw و Joker، ففي كليهما نتابع رحلة الانهيار النفسي لشخص تخلّى عنه الجميع، مجتمعًا وأسرة ونظامًا. لكن بينما كان Joker عملاً رمزيًا قاتما، مصورًا بمشاعر سوداوية وتكوين بصري متقشّف وداكن، بقي Straw داخل حدود السينما العاطفية الواقعية الشعبية. لم يستخدم الرمز أو الاستعارة، بل المباشرة، والاحتجاج الصريح. بطلة Straw لا تتحول إلى رمز مثل جوكر، لكنها تصبح وجهًا حيًا لإنسانة تنهار عجزا لأن لا أحد التفت إلى ألمها.
أما Fruitvale Station ، الذي وثّق مأساة حقيقية لرجل أسود قُتل برصاص الشرطة، فكان أكثر هدوءًا، وأكثر حذرًا في طرحه. اعتمد على التفاصيل الصغيرة، على واقع اللحظة، وابتعد عن الخطابة. مقارنةً به، يبدو Straw مثل نداء استغاثة عالي الصوت، لا يبحث عن الإقناع، بل يعرض نموذج للاحساس بالعجز امام الضغوط الاجتماعية والمؤسسية. إنه فيلم لا يريد أن يناقش، بل أن يُسمع، مهما كانت النغمة عالية أو متوترة.
في النهاية، يقف Straw على هامش هذه الأفلام: لا هو بالواقعي الخالص، ولا بالرمزي البارد، بل تعبير مشحون من قلب السينما التي تنحاز إلى العاطفة والانفعال. قد لا يكون الأعمق أو الأهدأ، لكنه بالتأكيد واحد من أكثرها غضبًا واحتراقًا.