نادى حافظ: شاعر مصري يسعى لتنقية قلبه من آثار الذكريات

نادى حافظ: شاعر مصري يسعى لتنقية قلبه من آثار الذكريات

يكتب قصيدة النثر فى الكويت.. وديوانه الأخير «أكلم الأبواب»
يعيش فى الكويت ويهدى الديوان إلى «ثلة من الأصدقاء طاروا كغيمات»
يستبدل الأهل بالأبواب ويتعاطف مع شركاء الهجرة من كل الكائنات

من بين المزايا الكثيرة التى يحصل عليها المرء من المشاركة فى مهرجانات ثقافية فى بلدان الخليج العربى، أنه يستطيع فى مثل هذه المهرجانات أن يضع يده ـ أولا ـ على الحجم الهائل الذى تمثله الثقافة المصرية وتأثير ”القوة الناعمة المصرية” على شعوب الخليج العربى، وأن يتعرف ـ ثانيا ـ على الوجه الآخر للثقافة المصرية، ممثلا فى مبدعيها من شعراء وروائيين وكتاب قصة ومسرح ونقاد أدب اقتضت ظروف عيشهم الإقامة فى بلاد المهجر الخليجى، وهؤلاء لديهم مرارات وأحزان وآراء فيما يحدث فى الثقافة المصرية، مثلما لديهم إنتاج ثقافى وفنى وفكرى يسعون سعيا حثيثا إلى نشره فى الصحف المصرية والعربية، فى محاولة من “مبدعى الخارج” للتواصل مع الوطن ولو من خلال الصفحات الثقافية.

خلاصة القول إن هناك شعراء من مصر يعيشون فى الخليج، وإن كان القليلون منهم هم الذين لا يزالون حريصين على المغامرة فى الكتابة، وقد كان الشاعر نادى حافظ من هؤلاء الذين أعدتُ اكتشافَ شعرهم، خلال رحلتى الأخيرة إلى الكويت، كنت قرأت كثيرا من شعره متفرقا فى صحف مصرية وعربية، لكنى لم أقرأ ديوانا كاملا له حتى التقيته ـ لأول مرة فى حياتى  هناك، فأهدانى نسخة من ديوانه الأخير “أكلِّمُ الأبواب”، يومها قلت له إن شيئا فى وجهه يشبه وجه صديقى الشاعر البهاء حسين، فضحك نادى حافظ وأضاف: “ومحمود درويش أيضا”.

حين قرأت “أكلم الأبواب” أدهشنى أننى كنتُ كونتُ انطباعا غيرَ دقيق عن تجربته التى قرأت بعضَها متفرّقا، فقد اكتشفتُ أنه يكتب قصيدة النثر، وتتمتع قصيدته بعددٍ من السمات التى اتُهمت قصيدة النثر دائما بإهمالها والازورارِ عنها، وأن هذا الديوان -وهو الرابع لشاعره- ربما يكون أكثرها انتماء لتجربة قصيدة النثر، حيث جمعت قصائده بين سماتٍ من “قصيدة التفعيلة” وأخرى من قصيدة النثر، وإن كانت سمات النثر هى الأكثر بروزا ولفتا للنظر، فى هذا الديوان الذى يتشكل من عدة ملامح أساسية:

أولا: الانشغال بقضية “كبرى” هى قضية الغربة والاغتراب عن الوطن، والجراح التى لا تلتئم بسبب هذه الغربة والانقسام الذى تعانيه الذات المغتربة، وهو موضوع لم يعد يشْغَل حيّزا واسعا من اهتمام الشعراء المصريين، ربما منذ حقبة “الهجرة إلى الخليج” فى عقد السبعينيات من القرن الماضى، فضلا عن أن الغربة تعتبر فى عرف نقادنا الأسلوبيين “قضية كبرى” لا يصح لقصيدة النثر عندهم أن تقربها، كما أن مفهوم الغربة لم يكن ملمحا شعريا رئيسيا عند أغلب شعراء النثر المصريين من جيل التسعينيات، وباستثناء قصائد الشاعر أحمد يمانى  المقيم فى إسبانيا والحاصل مؤخرا على جائزة سركون بولص ـ وقصائد الشاعر عماد فؤاد ـ المقيم فى بلجيكا ـ لا تبدو قصيدة النثر المصرية مهمومة كثيرا بقضية الغربة، فالشعراء الذين يعيشون بين أحضان الوطن نفسه “شعراء الداخل المصرى” يبدو أنهم فقدوا الشغف الذى يتضاعف بمرور الوقت فى قلب كل مُغترب حيال وطنه الأول، والحق أن المساحة التى يعطيها الشاعر نادى حافظ لتبدلات المشاعر بخصوص الغربة تبدو خاصة ومميزة، تحمل سماتٍ شعرية فريدة، كونه عاش الاغتراب قلبا وقالبا ـ بطابعه الخليجى  لمدة لا تقل عن عقدين، حيث يعمل صحافيا فى صحيفة “القبس” الكويتية.

ثانيا: المراوحة بين الوطن والغربة والتى هى نفسها وجه من أوجه المزاوجة بين سمات القصيدة التفعيلية وسمات قصيدة النثر، عبر الانحياز إلى مجموعة من القيم الأسلوبية لهذه وتلك داخل النص الشعرى نفسه، من حيث استخدام تقنيات الحكى والقص وبناء الشخصية لتحقيق غاية شعرية تتقصّى تجسيد المشاعر داخل نسق سردى حكائى، يستخدم فيه أحيانا صوت الراوى للتعليق على مشاهد، كما استخدمت فيه “قصيدة البوح” والسرد الاعترافى السير ذاتى، وكلها أدوات استطاع الشاعر أن يعيد توظيفها كتقنياتٍ فى شعره بطريقة ملهمة.

أغلب الظن أن الشاعر نادى حافظ كتب قصيدة النثر فى الغربة تحت وطأة هذا الألم الذى شعر به، من أن قيود قصيدة التفعيلة قد صارت أضيق من جرح اغترابه، وأن التجربة التى بلغت من الألم حدا جعله يتخلى ـ حتى ـ عن ذكريات وطنه، ربما كانت هذه التجربة سببا وجيها فى أن ينزع رداء التفعيلة عن قصيدته، بحثا عن صوته الشعرى الخاص، وهذا أمر يبدو لى بديهيا تماما.

 الوطن فى المغسلة

أحب أن أبدأ من العنوان “أكلم الأبواب”، وهو قلب الدلالة فى الديوان، حيث يطرح عدة تساؤلات أولية، يمكن أن نستخلص منها معانى ودلالات: هل الشاعر يكلم الأبواب لأنه لم يعد يجد من يكلمه فى الغربة، وهل الأبواب مغلقة إذن أم مفتوحة؟ والأرجح أن الشاعر كان فى مرحلة ما من عمره يعتقد ـ مثل كل البسطاء ـ أن السفر إلى بلدٍ آخر هو نوع من اقتحام الأبواب أو اقتحام المجهول، من أجل البحث مغتربا عن لقمة العيش، لكنه اكتشف الحقيقة الصادمة حينما أصبح مهاجرا، وهى أنه لم يعد لديه من يستطيع أن يحقق معه التواصل الإنسانى سوى هذه الأبواب، بعد أن فقد -بسبب الغربة- الأهل والأصحاب، والأبواب هنا قد تعنى فى أحد معانيها الستر أو الثروة أو الفرصة المتاحة، مثلما تعنى الكثير من معانى الوحدة والخوف، وهى تدل مباشرة على فكرة البيوت، وامتلاك الأبواب أمر فى غاية الأهمية والصعوبة خصوصا لدى الفقراء، حتى لو كانت لا تستطيع كجماد أن تمنح الأمان إلا أن الأبواب ـ على الأقل ـ تبقى قادرة على تقديمِ الدفء.

والحق أن الدكتور محمد عبد الباسط عيد قد منح “الباب” معانى ودلالات ثقافية جديدة، فى كتابه الجديد “عمائم وطرابيش وكلمات.. قراءات فى العلامة” الصادر مؤخرا عن دار العين للنشر، حيث اعتبره واحدا من العلامات المهمة فى الثقافة الإنسانية عموما وفى الثقافة العربية على وجه الخصوص، متتبعا قيمة الباب فى ثقافة إنسان الكهوف الباحث عن الدفء والأمان هاربا من الضوارى، إلى ثقافة الإنسان العربى فى العصر الحديث الذى عرف تأثيرات مفردة “الباب العالى” مثلا، والذى ظل رمزا للسلطة الممتدة للخلافة العثمانية التى دامت سيطرتها على البلاد العربية لعدة قرون، يقول:

“أحتاجُ أن أودع قلبى

كلّ خميس فى “مغسلة”

ربما ينظف من بلاد

“شخبطها” عليه بعض الأصدقاء

بأرواح فاقعة.

فكرة الوطن وألم الاغتراب تهيمن على أجواء ديوان “أكلم الأبواب” وعلى قصائده، بدءا من الإهداء: “إلى ثلة من الأصدقاء تحولوا فى لحظة إلى غيمات وطاروا ليظللوا عمرى.. إليهم.. إلى أصدقائى كأوطان مؤقتة أيضا”، كما تلح فكرة الوطن أيضا فى عناوين بعض القصائد، فضلا عن ورودها بأشكالٍ مختلفةٍ فى المتون، مثل: “خذوا أوطانكم عني” و“أوطاننا أقدامنا”، لكنه يقول فى أولى قصائد الديوان التى تحمل عنوان “أصحو من نومى بلا قدمين”:

“اسمعونى أيها الأصدقاء

الليلة قلبى لينٌ

كتفاحة عطنة

وروحى هاربة من ظنونى.

أنا مستعد للهبوب

فى كل الفصول

للهبوط من زنزانتى الطائرة

فى أول العرض

منذ علمتنى الأساطير

أن القدمين وطن واسعٌ

لا ينتهى بنقاط التفتيش”

منذ القصيدة الأولى هناك زنزانةٌ طائرة ونقاطُ تفتيش وليال عرجاء، وبالتالى هناك اغتراب، لكن فى القصيدة الثالثة “خذوا أوطانكم عني” ينتقل الشاعر إلى خطاب مختلف، وهو ما يمكن أن تستدل عليه من العنوان الصادم، فالشاعر هنا يعلن تخلصه من نغمة الحنين أو الانتماء إلى الوطن، منقلبا على مشاعر الاغتراب، حيث يجد لنفسه وطنا بديلا، فى قصيدة “فى الأصل كنا شجرة” حيث تطرح القصيدة انتماء جديدا للشاعر.

أول ما يمكن ملاحظته هنا هو اختلاف الأدوات الأسلوبية التى يستخدمها  شاعر قصيدة النثر عن الأدوات الأسلوبية للشاعر القديم، من الإنشادية والخطابية تحت إيقاعات الأوزان والتفاعيل إلى استعمال الإيقاع الجرسى الرنان للكلمات، من أجل استدرار دموع مُستمعين افتراضيين تجاه آلام الشاعر المغترب وأحزانه، نادى حافظ يمشى هنا عكس هذا المسار المألوف لقصيدة الاغتراب، حين يعلن العصيان على هذه الإنشادية الدارجة مستعيضا عنها بواحدة من أدوات قصيدة النثر وهى شعرية البوح، معترفا بلغة شعرية مباشرة وصادمة أنه يحتاج أن يودع قلبه فى “مغسلة” أسبوعيا، ليتخلص من كل ما يذكّره بالوطن، محاولا أن يقطع الصلة مع الذات، لكى يتعافى من ذكريات غادرها لكنها لم تغادره، وكأن هذه الذكريات تشكل وطأة ما على الذات التى تشعر بتأنيبٍ لأنها تخلت عن مكان ماضيها، أو أن هذا الماضى نفسه ـ ربما ـ لم يكن جديرا بها، وتقدم القصيدة الشاعر حائرا بين أن يكون هو الذى اختار الغربة بإرادته، أو أن تكون الغربةُ ـ فى حقيقة الأمر ـ هى التى اختارتْه.

 أبواب السجن

قادته فكرة الوطن إلى عدة تحولات داخل النص الشعرى، منها “تقنية البوح” التى أشرنا إليها، ومنها محاولة التوحد مع أشياء وكائنات الطبيعة وتبنى خطابها واستخلاص العبرة منها، كأنه نوع من الانتماء يجد فيه الشاعر عوضا عن الأهل والأصدقاء والذكريات المشتركة، فمما لاشك فيه أن الشجر الذى تحول إلى أبواب أصبح قريبا من الشاعر، أو أن الشاعر والأبواب يشتركان فى حزن واحد، منذ فقدت هذه الأبواب ـ التى كانت أشجارا يانعة يوما ما ـ بيئتها الأصلية فى مرحلة ما، هذا التوحد مع أشياء الطبيعة المغتربة والمقتلعَة من جذورها يعمق لدينا طعم الاغتراب، ولكى يعطى نصّه طابعا كونيا، يتوقف فى إحدى القصائد أمام تلك الأشجار المسكينة، التى تحولت لسوء الحظ إلى أبواب سجن، وكأنها سمة فى كل الكائنات الحية أن من يخرج من بيئته الأصلية يتعرض للإيذاء، كما يقول المثل الدارج “من خرج من داره قل مقداره”، فى إحدى قصائده يتعاطف مع الشجرة التى صنع منها باب السجن:

“ما ذنب هذه الشجرة

خلعوها من الجنة

وشردوا طيورها

ونصبوها

بابا على السجن”.

هذه الحالة من الاغتراب ربما كانت هى دافعه الأول إلى الشعور بالتمزق، وربما كان تأثيرها كبيرا على إحساس الانفصال عن أعضاء جسده، إنه يتحدث عن عدم قدرته على السيطرة عليها، عن يده التى تغادر جسده ولا يعرف ـ حتى ـ أين نسيها:

“يدي

لا تنامُ تحت رأسِها

ربما نسيتها فى المطار

أو فى المقهى

أو على كتف عابرٍ

أو على خدِ مسجون

أو فى جيوب بنطلونى الجينز

وربما تلوحُ للهواء

كل ساعتين

فى بلكونة جارتى المطلقة”.