عزة سلطان: الكتابة كإلقاء حجر صغير في ماء ساكن

المرأة فى كتابتى لا تبحث عن نصفها الآخر بل عن النسخة الأكثر اتساقًا منها
الأدب أسهم فى تحجيم النساء فى الكليشهات وخانهن بلغة مدهشة
فى مسافةٍ ما بين السرد والنَفَس، تقف عزة سلطان، كاتبة لا تُحب العناوين الكبيرة، لكنها تعرف كيف تحفر جملة تُقيم فيك طويلًا. لا تكتب سلطان عن النساء لتُجمِّلهن أو تُدينهن، بل لتجعلهن مرئيات فى لحظاتهن الأكثر هشاشةً وصدقًا. منذ مجموعتها الأولى “امرأة تلد رجلاً يشبهك” وحتى “حافة رطبة”، ومن “تدريبات على القسوة” إلى “مسافة آمنة”، ظلت تنحاز لكتابة تنظر للعادى نظرة من يعرف أنه ليس كذلك. فى قصصها، الغربة لا تُصوَّر كمنفى جغرافى، بل كمساحة داخلية ملساء لا تسمح بالثبات. الحب فى كتابتها لا يأتى كى تقدم تعليمات، بل مرايا، من تلك التى تعكس صورتك كما هى، لا كما تريد. فى هذا الحوار، لا نكتفى بالأسئلة، بل نحاول الإصغاء إلى امرأة تكتب كما تعيش، تكتب بحذر، وبشغف، وبمسافة آمنة من كل ما يُقال على عجل.
فى كتاباتك هناك صوت ينمو فى الهوامش، ما الذى يدفعك لكتابة ما يُهمل عادةً؟ هل الحافة عندك خيار جمالى أم سياسى؟
لا أختار الحافة أو الهامش الموضوعات هى التى تختارنى، تلك المناطق التى لا تلتفت لها الكاميرات، ولا تتسلل إليها الجُمل الرنانة، هى بالضبط ما يشدّنى لأن ما يُهمل عادةً هو الأكثر صدقًا، والأكثر هشاشة، والهشاشة لا تُزيف، الكتابة بشكل محايد تشبه التقاط صورة جماعية فى مناسبة رسمية.. الجميع يعدل قامته، يبتسم بتكلف، وينسى، أما على الحافة، فثمة امرأة تنسل من سريرها لتُطفئ ألمًا، رجل يتحدث إلى جدار، أمّ تؤجل انهيارها لأن طفلتها لا تزال مستيقظة.. الحافة ليست خيارًا جماليًا ولا سياسيًا، هى فقط الحقيقة التى لا تصلح للنشر فى نشرة الأخبار، لكنها تعيش فينا، تنام إلى جوارنا، وتوقظنا على رائحة الخوف أو بقايا حلم.
فى مجموعتك الأحدث “حافة رطبة” لا تقع كتابتك عن الغربة فى فخ النوستالجيا، بل تصفها كواقع داخلى.. لماذا؟
فى “حافة رطبة”، الغربة لا تُقدَّم كشىء خارجى يلوّح من النافذة، بل كصوتٍ خافت داخل الرأس لا يصمت مهما تغيّرت الأبجديات من حوله، إننى لا أتعمد الكتابة عن الغربة بمفهومها التقليدى، لكننى أسعى لاكتشاف مساحات أخرى قد يغترب فيها الإنسان أكثر من اغترابه فى الوطن، فالوطن ليس تلك المساحة الجغرافية التى تُرسل منها الطرود، أو تُكتب على استمارات الهوية، الوطن الحقيقى يبدأ حين تكتشف أنك لم تعد تصلح لأن تكون “هناك”، ولا تنتمى تمامًا إلى “هنا”، حين تتحول اللغة الأم إلى لهجة تتردد داخلك فقط، لا تخرج منك. والغربة ليست فى المسافات، بل فى الطريقة التى تُقشر بها البرتقالة وتفتقد الرائحة، فى أن تنظر إلى سماء صافية وتشعر أن الزرقة غريبة عنك. لا أكتب الغربة كحنين، لأن الحنين بطبيعته خادع، الغربة عندى ليست وجعًا عابرًا، بل طبقة إضافية من الجلد، جلد لا يراك أحد من خلاله، لكنه يراك من الداخل جيدًا.
من يقرأ روايتك “تدريبات على القسوة” أو “حافة رطبة” إصدارك الأحدث يشعر أن هناك توترًا دائمًا بين الداخل والخارج. هل الكتابة لديك فعل تسوية أم تفجير؟
الكتابة بالنسبة لى مثل ارتطام حجر صغير بماء راكد، لا يريد أن يتحرك. أكتب كى أوقظ ما تظاهر بالنوم، لا لأُصلحه ولا لأُطيح به، بل لأشهده، وأعيد تشكيل علاقتى بالعالم من حولى، أحاول من خلال الكتابة الاكتشاف، والتعرف على الحياة من زاوية أخرى للمشاهدة، وعلى الرغم من ذلك فما أكتبه لا يريحنى، لكنه يعرّفنى على ذاتى أكثر. الداخل لا يسعنى دائمًا، والخارج لا يشبهنى كثيرًا، لذا أكتب ذلك الفراغ بينهما، الفراغ الذى لو لم أضع فيه الكلمات لأطبق على أنفاسى.
فى “مسافة آمنة” كنتِ تضعين القارئ فى مواجهة مع مشاعره دون جذبه أو نصحه. هل هذه المسافة الأدبية أيضًا آلية حماية ذاتية؟
المسافة ليست حماية، بل وعى. لا أكتب لأُمسك بيد القارئ وأعبر به النهر، أكتب لأقول له: هناك نهر، والماء بارد، وقد تكون التيارات خادعة. أكتفى بأن أشير. فى زمن يسهل فيه ارتداء أقنعة الحكمة والتنظير، أُفضّل الكتابة كمن يفتح النافذة دون أن يفرض عليك أن تنظر.
لا تكتبين “المرأة” كمفهوم نضالى، بل ككائن معقّد لا يسهل اختزاله. هل الأدب أسهم فى توريط النساء فى كليشيهات جديدة؟
بالتأكيد أسهم الأدب فى تحجيم النساء فى الكليشيهات، فالأدب أحيانًا خان النساء بلغة مدهشة. جعلهن إما ملهمات دائمات أو ضحايا أبديات.. كأننا لا نُؤخذ على محمل الحياة، بل على محمل الرمز. أكتب المرأة التى لا تعرف دائمًا ما تريد، لكنها تُجرب. التى تبكى ثم تضحك فى اللحظة نفسها، التى تقول “لا” وتبقى الباب مواربًا. المرأة غير المدهشة، وغير المأساوية، تلك التى تعيش وسط كل ذلك، وتسير.
فى كتاباتك السردية أو حتى نصوصك الشعرية الجسد ليس احتفاءً ولا وصمة. بل مكان هش ومتغير ومُحاط بنظرات كثيرة. كيف تكتبين هذا الجسد دون أن يقع فى فخ البلاغة أو الإدانة؟
أكتب الجسد كما أكتبه فى لحظة ألم، أو لحظة نشوة، أو لحظة خجل، لا كفكرة بل ككائن حى يتنفس، يتعرّق، يتوتر، ويخاف. الجسد هو المعادل الواقعى لوجود الإنسان، فالإنسان روح وجسد، فإذا كنا نعنى بالروح والمشاعر وكل ما هو محسوس، فلماذا حين نكتب عن الجسد لا بد أن نواجه بإدانة. لا أريد أن أُدرّس الجسد، أريد فقط أن أستعيده من فم الآخرين. من التاريخ، من القوانين، من الخطب. أُعيده إلى صاحبته.
من بين شخصياتك الأنثوية، من الأقرب إلى “انزلاقكِ الشخصى” وشعرتِ أنها هى التى كتبتكِ؟
شخصياتى تضيع منى فور كتاباتها، لا أعرف من فيهم أقرب لى، كل شخصية قريبة منى لحظة كتابتها، تأخذ من روحى وأفكارى، ولا أنكر أن بعض الشخصيات تقود مصائرها وتتمرد على، المؤكد أننى حين أكتب أى شخصية أتمنى لها تظل أطول من قدرتى على النسيان.
فى “مسافة آمنة”، لا تعلّمين كيف نُحب، بل كيف نحافظ على الحب حين يصبح قابلًا للكسر. متى اكتشفتِ أن الحب ليس بطولة بل مهارة؟
لا أكتب عن الحب بوصفه حلمًا، ولا أقدمه كملصق تحفيزى، لكننى أكتب عن الحب حين يُصاب بالخدش، ويجب التعامل معه دون صراخ، وحين يتسلل الصمت، ويصبح الكلام حسابًا دقيقًا بين الحاجة والنجاة. علينا أن نعرف أن الحب ليس بطولة، فى اللحظة التى شعرت فيها أن البطولة تستنزفنا، وأن البقاء أحيانًا لا يحتاج إلى شجاعة، بل إلى حذر، كنت أفكر فى الكتابة فى هذا الموضوع لأننا لم نعرف متى نصمت. لأننا ظننا أن الحب ينجو دائمًا فقط لأنه حب. ومنذ ذلك الحين صرت أكتب عن كل ما يُترك دون أن يُقال، عن الصمت بوصفه مهارة بقاء. عندما كتبت “مسافة آمنة”، كنت أقاوم فكرة الحب ككلٍّ متماسك، وكنت أؤمن أكثر بأنه مجموعة قرارات صغيرة تُتخذ يومًا بعد يوم، دون أناشيد عالية أو نهايات سعيدة مضمونة. الحب لم يعد انبهارًا. صار مهارة: أن تسمع دون أن تفسّر، وأن تنسحب دون أن تهدم، أن تترك مسافة لا للغياب، بل للتنفس. لهذا لا أُعلّم الحب. فقط أرسم حدوده، وأترك القارئ يعيد ترتيب قلبه داخله.
الوحدة فى نصوصك ليست كارثة، بل مساحة للملاحظة. هل أصبحت العزلة امتيازًا إبداعيًا؟
العزلة ليست رفاهية ولا خيارًا واعيًا دائمًا. لكنها، حين تُتاح، تُصبح المكان الوحيد الذى لا تداهمك فيه الأصوات، ولا يسحبك فيه أحد إلى حروب لا تخصك، كما أن الضجيج الذى يحيط بكل منا قد يعطل أفكاره ومشاعره، يُصبح مثل فيروس يغتال لحظات التفرد، لذا أصبحت أسمع صوتى فى العزلة، بوضوح لا يُطاق أحيانًا. والكتابة تحتاج هذا الوضوح، حتى لو كان جارحًا.
هل الكتابة عن العلاقات عندك محاولة لفهم الآخر، أم لرؤية المرأة وهى تتغير فى مرآة الآخر؟
لا أكتب لأفهم الآخر، لأن الآخر يتغير، يتنكر، يتعدد، يتوارى خلف توقّعاته وأقنعته.. لكننى أكتب لأراقب المرأة، هذه التى تتغير كلما اقتربت، كلما أحبت، كلما خافت أن تُرى على حقيقتها. العلاقات فى كتابتى ليست درسًا فى فهم الآخر، بل مرآة تميل قليلاً لتُريكِ كيف تنعكسين حين تتورطين، كيف تصغرين فجأة لتتناسبين مع حجمه، ثم تكبرين وحدكِ بعد أن يغادر. أكتب عن تلك اللحظة التى تنتبه فيها المرأة أنها لم تعد كما كانت قبل أن تفتح قلبها، لحظة تعيد فيها صياغة تعريفها لذاتها، لا لأن الآخر طلب منها ذلك، بل لأنها اختبرت الخسارة كتمرين على اليقظة. المرأة فى كتابتى لا تبحث عن نصفها الآخر، بل عن النسخة الأكثر اتساقًا منها، حتى لو مرت خلال حقل ألغام اسمه: “العلاقة”.
عندما تكتبين سيناريو، هل ترين الصورة أولًا أم الجملة؟ كيف يتفاوض السيناريست داخلك مع الكاتبة التى تريد المساحة للجُرح؟
أرى الإيقاع أولًا. ثم صورة. ثم جملة. السيناريو مثل النحت فى الهواء، لا بد أن تراه ليمرّ. أما القصة، فهى مثل الغطس فى البئر. أحيانًا السيناريست بداخلى يقطع المشهد بسرعة، والكاتبة بداخلى تجرّ قدمه نحو الظلال. وفى النهاية، أترك للجُرح أن يقرر متى يُعرض ومتى يُخفى. وفى كل الحالات أنا ذات الشخص والجميع يأتى تحت لواء الكتابة. السينما علمتنى أن أتخلّى، أما القصة فأعادت ليّ حقى فى الامتلاء.. السينما علمتنى أن أُقصّ الزائد. أن أترك الصمت يعمل أحيانًا بدلاً من الجملة. فى السيناريو، عليك أن تفكر بكلفة كل ثانية، أما فى القصة فأنا أكتب بلا ميزانية، أفرط فى التفاصيل، أستضيف كل ما لا يصلح للكاميرا.. القصة مكان البوح الحر، لا لأنه بلا تكلفة، بل لأنه لا يحتاج تصاريح تصوير، فكثيرا ما أهرب إلى القصة، لكننى أهرب لأبقى.
لو كانت لكِ حرية تحويل أحد أعمالك لفيلم، أيّها ستختارين ولماذا؟ وهل ستكونين المخرجة أم ستسلمين النص لمخرج آخر؟
“تمامًا كما يحدث فى السينما” لأنه مكتوب بكاميرا داخل القلب. وسأسلّم النص، لا لأننى لا أريد إخراجه، بل لأننى أريد أن أراه بعين شخص آخر، يدهشنى بما لم أره فى مرآتى.