«نسيم مالح».. امرأة تبحث عن الحب في مدن متعددة

رواية هبة خميس ترتكز على وصف الأماكن وحياة سكانها..
تعيش البطلة كأمرأة وحيدة وتطارد الحب عبر عدة مدن
فى روايتها الأحدث “هواء مالح”، تقدم الكاتبة هبة خميس قراءة مختلفة لواقع ممتلئ بالتفاصيل الواقعية المختلطة بخيال وتصورات أبطالها الذين لا نعرف عنهم بدقة هل هم حقيقون أم من صنع خيال البطلة.
من نحن بلا ذاكرتنا؟ انطلاقًا من هذا السؤال المحورى تبدأ «صفاء» رحلة مواجهة لهواجسها المتشابكة مثل أوراق شجرة سرو، فتنتقل الحكاية بين خطين زمنيين؛ قبل وبعد حادثة القطار التى تظل البطلة أسيرة لمشهدها الضبابى.
الرواية معنية بالذاكرة، لكنها أيضًا عن الحب؛ تتأرجح بين فكرة حقيقته ووهمه، حيث تخوض البطلة رحلة ملاحقة لذلك الحب من الإسكندرية مرورًا بمطروح إلى سيوة، وخلال تلك الرحلة التى يُمثّل فيها المكان بتفاصيله وطبيعة ساكنيه من البدو بطلاً مؤثرًا، تجد البطلة نفسها فى محاولات دائمة للتأقلم مع محيطها، تُقابل هواجسها وجهًا لوجه فى مسرح جريمة محاولة باستمرار العودة لتفاصيل حياتها التى فقدتها.
تعيش البطلة كامرأة وحيدة، وتلعب أم هناء دور الجارة التى تحفظ سمعة البيت فلا تهتم أم هناء بجسد صفاء النحيل، ولا بملابسها الواسعة الداكنة. تهتم فقط بكونها امرأة دون رجل يشبع رغبتها فى الجنس، فتطاردها فى الواقع وحتى فى أحلامها.. اعتادت أم هناء مطاردة صفاء بضخامة جسدها ووقاحة نظراتها، فغدوا حاجزا بين رغباتها طوال الوقت. كان مزعجا بالنسبة لها أن تطاردها فى تلك الحياة وحياتها الأخرى فى المنام.
صفاء امرأة تطارد الحب عبر عدة مدن، فتنتقل إلى سيوة، لتتذكر أنها منذ اللحظة الأولى التى وقعت عيناها على أطلال واحة سيوة أبعدها النفور عن المكان، فهى جبال متقزمة وقلاع اتخذت من الجبل أساسا وحيطان متهدمة، وهى هنا لملاحقة رجل نسيت ملامحه وهى تصف لحظة دخولها الواحة قائلة: “وصلت هنا فى مواسم الاستشفاء، فتطوع البعض عند محطة الباص بوسط الواحة بإرشادى إلى مكان مناسب للدفن بالرمل، اختاروا لى فندقا محبطا، وبرنامجا للعلاج من مرض لا أعلمه، لكن كل من يأتى فى ذلك الوقت يبحث عن ذلك العلاج السرى المدفون بين الرمال الساخنة”.
تروى البطلة التى تعيش فى إطار ضيق من العمل للمنزل، والرجال الذين عرفتهم فى حياتها لم يختلفوا كثيرا عن صبية المدرسة، فهم لم ينضجوا جيدا، وفى داخلهم ذلك الطفل الذى يعلو صوته وتزيد حدة انفعاله، كى يبرهن على رجولته، وهى تعيش حياة قاسية، فمع مجيئها كأخت صغرى غير مرغوب بها، اعتبرت الأسرة أنها اقتنت خادمة مجانا، وكان نصيبها من البيت شرفة وضع عليها باب، وفى المنزل كانت تعانى من وطأة أم كانت تعلم أن ابنتها سوف تقعد بجوارها حتى الممات. وهكذا تعلمت التحرك بخفة مثل أى شبح فى المنزل.
تبحث الرواية عن ما يدور فى حياة المصايف، الحياة التى تفرغ وتتحول بحلول الشتاء، وفى أحلام البطلة يبرز جمعة، ومهمته كانت الإبلاغ عن الحوادث التى تقع فى الطريق، فيحافظ جمعة على وجوده وسط الساحة، متواصلا مع سيارة خدمة الطريق كى يبلغوه بأى حادث قريب، فيأتى ليجمع بقايا السيارات المتصادمة وأحيانا يجد متعلقات لركابها، فوسط غرفته خزانة خشبية صغيرة تمتلئ بمتعلقات من تلك الأشياء التى ليست ذات قيمة عالية، فالقبعات ونظارات الشمس وبقايا الاكسسوارات ولعب الأطفال ليست أشياء غالية جدا، لكن مع مرور الوقت صارت تلك الخزانة أقرب لمتحف، فمع كل شىء من تلك المتعلقات ألصق جمعة تاريخ الحادث ونوع السيارة، فيكون المرور عليها أشبه بجولة بين أروقة المتاحف، وهى بالطبع تتبع حوادث العام وتتناقص فى شهور الشتاء وتتضاعف فى شهور الصيف.
جمعة هو بطل الرواية الآخر فى ذاكرة البطلة، وقد ولد لأسرة كبيرة حجما تقطن حدود الإسكندرية، فى منطقة بدت ريفية، وبعد وفاة والده اضطر للانتقال من العامرية لعدة أمكنة كى يصمد، فهو فى الصيف يعمل فى المندرة، وفى الشتاء يتجه لإيكنجى مريوط وهناك كان يعمل فى كل شىء وأى شىء. وفى الموتيل تعرف على الكثير من شبان العرب السكان الأصليين للمنطقة وأصحابها، مثلما يدعون. يعمل الشاب فى الكثير من المهن وأهمها حراسة الأراضى التى هجرها أصحابها والبيوت المتداعية، وفى ميكروباص أخير لمطروح جلس جمعة بجوار صفاء التى لا تعرف لماذا أتت ولماذا رحلت. فهى تحمل هوية وتشعر بهوية أخرى، ففى أوراقها الشخصية لم تكن أمًا من قبل، ومن داخلها كانت تلك الأم التى فقدت رضيعها فى حادث أليم.
ترتكز الرواية على وصف الأماكن وحياة سكانها؛ فالبطلان صفاء وجمعة يقابلان وجه عدة مدن ما بين الونس والحميمية فى مطروح، ورغم تهدم معسكرات الجيش الإنجليزى فإن هناك قسما من المعسكر مازال قائما. وفى ايكنجى مريوط يتعجب جمعة من بعد مساكن البدو عن البحر، فلم يعتادوا بناء علاقة وثيقة مع المياه وهم يعرفون الصحراء فقط، ويتجمعون داخلها، لكن البحر لا يهمهم أن يظل أو يبنى المستثمرون الأسوار ليحجبوه عنهم، كأنه لم يوجد قط.