سيف منور السردية: السلام في ظل الحرب – استلهام من رواية 1984

سيف منور السردية
نُقشت هذه العبارة، إلى جانب عبارتين أخريين، كشعار رئيسي للدولة الديكتاتورية التي يتناولها الكاتب الإنجليزي جورج أورويل في روايته الشهيرة 1984، وقد نسج أورويل من وحي خياله عالماً قمعياً شديد السيطرة، تفرض فيه السلطة المطلقة رقابة شاملة على حياة المواطنين، من خلال شاشات منتشرة تراقب أدق التفاصيل اليومية، وتجرم أبسط الحقوق الإنسانية، كالتفكير الحر، أو الكتابة، أو حتى التساؤل، تحت مسمى جرائم الفكر. ويتزعّم هذا النظام الشمولي شخص يدعى “الأخ الأكبر”، وهو زعيم الحزب الداخلي الذي يُحتفى به في طقوس يومية مفعمة بالتقديس، رغم أن كثيرين يشككون في وجوده الحقيقي أصلاً.
تدور أحداث الرواية حول وينستون سميث، الموظف في وزارة الحقيقة وعضو الحزب الخارجي، الذي يبدأ رحلة التمرّد الداخلي ضد القمع المُمنهج، ساعيًا للتحرر من قبضة الأخ الأكبر، بأي وسيلة كانت.
إن من يقرأ هذه الرواية للمرة الأولى قد يجد صعوبة في استيعاب الرمزية المذهلة التي وظّفها أورويل، والذي أخفى هويته لفترة طويلة خشية الملاحقة والعقاب، فهذا العمل مليء بالإشارات الدقيقة في تفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها أغلب الناس، حيث لا يتسع هذا المقال إلا للتوقف عند تحليل الشعارات الثلاثة الأكثر استفزازاً في الرواية، والتي روجت لها آلة الدعاية التابعة للأخ الأكبر: “الحرب هي السلام”، “الحرية هي العبودية”، و”الجهل هو القوة”، وهي شعارات تمثل ذروة التلاعب باللغة، فهذا التناقض الصارخ بين المفاهيم، بشكّل صدمة ذهنية عميقة للقارئ، اذ فكيف للسلام، في أي ظرف كان، أن يكون في الحرب ؟ وكيف يمكن للحرية أن تنبع من العبودية؟ وهل يعقل أن يكون الجهل مصدرًا للقوة؟
في الحقيقة، تحولت هذه الشعارات إلى هاجس دفعني للغوص في عمق الرواية، وإعادة قراءتها بعين جديدة، متسائلا لا قارئا فقط، ومع توالي التأملات، بدأت أرى الرواية من زاوية مغايرة تمامًا، وأظن أنني توصلت إلى رؤية قد تبدو صادمة للبعض: رواية 1984 هي عمل ديني بحت، فائق الذكاء والرمزية. فقد أعاد جورج أورويل صياغة العلاقة بين العبد والمعبود، ولكن عبر عدسة دنيوية قاتمة، تتجسد هذه العلاقة في صورة المواطن الخاضع للحاكم الديكتاتور، ومثلما خلق الله في الدين مفاهيم تبدو متناقضة -مع انها متسقة في حقيقتها- وألزم بها عباده ضمن منظومة من الشعارات العليا، فإن الأخ الأكبر في الرواية يجسد هذا الحضور الكلّي، الرقابي، والتوجيهي، الذي يفرض شعارات مطلقة لا تناقش.
وعليه، فان شعار “الحرية هي العبودية” يمكن قراءته بمعنى أن الإنسان لا يكون حرًا بحق إلا عندما يخلص في عبوديته لله، فيتحرر بذلك من أشكال العبودية الأخرى كالمال، السلطة، الأشخاص، النفوذ أو حتى للشهوات، فالإخلاص لله وحده هو ما يمنح الإنسان حرية داخلية مطلقة لا تقيده بها العوامل الدنيوية، فالحرية تكمن في العبودية..
أما الجهل هو القوة — أو بتعبير آخر، الجهل هو المعرفة — فهي تُحال إلى مبدأ فلسفي عميق، إذ إن هناك أسئلة كبرى حيّرت العقل البشري منذ فجر التاريخ، مثل أصل الوجود، وحقيقة الخلق، والمصير بعد الموت، وغيرها الكثير من الاسئلة الميتافيزيقية او الماورائية، ورغم محاولات الفلاسفة والمفكرين في إيجاد إجابات لها، تظل تلك الأسئلة عصية على الفهم والإدراك. ومن هنا، فإن التسليم بالعجز عن الفهم المطلق والاعتراف بالجهل هو شكل من أشكال القوة؛ فحين يدرك الإنسان جهله فيما لا يمكن إدراكه، ويسلّم بذلك، فإنه يتحرر من التيه العقلي، ويبلغ راحة داخلية قائمة على الإيمان واليقين.
أما العبارة الثالثة، “الحرب هي السلام”، فهي من أكثر الشعارات التي تثير الحيرة والتأمل، وقد بدا لي أن المقصود بها ليس الحرب التقليدية، بل المفاضلة الأبدية التي يخوضها الإنسان بين حربين وسلامين فإما أن يختار حربًا خارجية، يمضي حياته خلالها في صراع دائم: ضد الظلم، الجهل، الفقر، وضد كل ما يعيقه عن نيل كرامته وإنسانيته، وهذه الحرب، رغم قسوتها، تفتح له بابًا نحو سلام داخلي عميق؛ سلام نابع من إحساسه أنه لم يتخل عن ذاته، ولم يساوم على حقيقته، فتهدأ روحه، ويطمئن قلبه، وإما أن يختار طريق السلام الظاهري، حيث يتجنب كل مواجهة، ويخضع طواعية لكل سلطة، ويقبل بأدنى مستويات العيش حتى لا يُمسّ بسوء، لكنه في المقابل، يشعل في داخله حربًا نفسية لا تهدأ، حيث يعيش غريبا عن نفسه، ممزقًا بين ما يريد وما يجبر عليه، وتظل روحه تصرخ بصمت حتى آخر رمق، دون أن تظفر براحة أو سلام..
وقد جسد وينستون بطل الرواية هذا الصراع خير تجسيد، إذ خاض حربًا شاقة للإلحاد بالأخ الأكبر والكفر بنظامه القمعي، طامحًا إلى حريته، وإلى ذاته، عُذب وقُهر طيلة تلك الفترة، إلى أن جاءت اللحظة الفارقة، حين نظر إلى إحدى صور الأخ الأكبر، فإذا بشيءٍ ما يتحرك في داخله، إحساس غريب أقرب إلى السكينة وربما القبول، وفي النهاية، أحب الأخ الأكبر، آمن به، واحب مؤسساته وقوانينه، وسرعان ما التحق بالحزب الداخلي، ذلك الحزب الذي يمنح أعضاءه كل الامتيازات، حيث تصير إرادة أعضائه رغبة مستجابة، ويغدق عليهم بالنعم والخيرات، طالما أنهم سلموا بالكامل، دون سؤال، ودون شك، هكذا، لا مكان للمرتابين، ولا عزاء لمن تجرأ على التفكير.
تختتم الرواية بمشهد عميق الدلالة: وينستون يجلس وحيدا في أحد مقاهي المدينة، أمامه كأس من الشراب، ومجند يقف على رأسه ليملأ الكأس كلما فرغ، مشهد بسيط في ظاهره عميق في دلالته.. من هنا نستطيع ان نعرف كيف تسيطر على أي إنسان؟ تستطيع فقط عندما تجعله يعاني..
انتهت
باحث سياسي وقانوني اردني
[email protected]