د. عبد الناصر سلم حامد: حصار الفاشر: الصراع الذي قد يغير ملامح خارطة دارفور

د. عبد الناصر سلم حامد
وسط صمت دولي خانق، تتعرض مدينة الفاشر لأبشع حصار شهده إقليم دارفور منذ اندلاع حرب السودان الأخيرة.
«طفلي الأصغر لم يعد يبكي من الخوف، بل من الجوع»، هكذا تصف فاطمة إبراهيم، وهي أم لأربعة أطفال تحتمي في قبو مدرسة بمدينة الفاشر، الوضع المروع الذي تعيشه آلاف العائلات المحاصَرة منذ أسابيع.
“لا طعام. لا ماء. لا مساعدة. نحن لا نموت في صمت، بل يُمحى وجودنا.”
الفاشر ليست مجرد مدينة محاصَرة، بل رمز تاريخي وثقافي واستراتيجي. فقد كانت عاصمة سلطنة دارفور القديمة، ومركزاً للتنوع والتجارة والتعايش الديني لعقود طويلة. منذ بداية النزاع في دارفور عام 2003، شكّلت الفاشر ملاذاً لمئات الآلاف من النازحين من المدن والقرى التي اجتاحتها الميليشيات. واليوم، تواجه المدينة ذاتها المصير ذاته، دون حماية أو اهتمام دولي فعلي.
منذ العاشر من مايو الماضي، تتعرض الفاشر لحصار خانق تنفذه قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها. القصف المتواصل، جواً وبالمدفعية الثقيلة، حوّل الشوارع إلى أنقاض، والمنازل إلى مقابر. أكثر من 800 ألف مدني، كثير منهم نازحون منذ سنوات، يعيشون تحت الحصار بلا غذاء أو ماء أو رعاية طبية.
المدينة محاصرة. الأطفال جياع. المستشفيات مدمرة. والعالم يتفرج.
تشير صور الأقمار الصناعية إلى أكثر من 38 ضربة استهدفت أحياء مدنية في أقل من أسبوعين. وتؤكد مصادر طبية أن ما لا يقل عن 327 مدنيًا قُتلوا منذ منتصف مايو، من بينهم عشرات الأطفال والنساء. وتُوثّق فرق الطوارئ المحلية تنفيذ عمليات إعدام ميداني في محيط مستشفى الفاشر الجنوبي، بالإضافة إلى قصف مباشر استهدف سوق الوحدة ومخيم زمزم للنازحين.
«توقفنا عن عدّ الجثث… صرنا نحفر فقط»، يقول أحد الممرضين في آخر نقطة طبية تعمل جزئيًا في المدينة.
نقاط المياه تم تدميرها عمدًا. مخازن برنامج الغذاء العالمي نُهبت وأُحرقت. خطوط الكهرباء والاتصالات قُطعت بالكامل. الطائرات المسيّرة تحوم فوق الأحياء، تبحث عن أي تحرك بشري لتوجه نيرانها إليه. من ينجو من الجوع، يواجه القنص. ومن ينجُ منه، تفتك به الحمى والأوبئة في ظل غياب تام لأي خدمات صحية.
هذه الانتهاكات ليست عشوائية ولا نتيجة لمعركة تقليدية، بل حملة مدروسة تهدف إلى تدمير المدينة وتجويع سكانها وتركيعها بالكامل. ورغم مأساوية الوضع، لم يتحرك المجتمع الدولي بالشكل المطلوب. لا مساعدات جوية عاجلة. لا قرارات ملزمة من مجلس الأمن. لا إدانة جادة من القوى الكبرى. أما الدول ذات النفوذ على قيادة الدعم السريع، وفي مقدمتها الإمارات، فلا تزال تلتزم الصمت.
تقول آمنة يونس، وهي معلمة نازحة تقيم في مخيم أبو شوك: «قالوا لنا إن العالم سيحمينا… لكن كل ما فعله العالم أنه أغلق عينيه وتركنا نموت.»
إن سقوط الفاشر لا يعني فقط انهيار مدينة، بل انهيار ما تبقى من الدولة السودانية. فسقوط المدينة يعني سيطرة كاملة لقوات الدعم السريع على إقليم دارفور، وتحولها من ميليشيا متمردة إلى سلطة أمر واقع، تمارس الحكم بالقوة والعنف، خارج أي شرعية دستورية أو رقابة قانونية.
تقف خلف هذا التقدم شبكات إقليمية ودولية؛ دعم لوجستي من الإمارات، وقنوات تسليح من شرق ليبيا، وتقارير عن وجود خبراء وتقنيات من روسيا. كل ذلك يمنح قوات الدعم السريع أدوات لتأسيس كيان موازٍ داخل الدولة، يهدد الأمن الإقليمي، ويعيد إنتاج سيناريوهات التقسيم والانفصال في السودان.
الحدود مع تشاد تشهد موجات لجوء جديدة، مع ازدياد أعداد الهاربين من الموت تحت القصف. مصر تلتزم الصمت رغم الخطر الاستراتيجي الزاحف على الجنوب. الاتحاد الإفريقي يكتفي ببيانات ضعيفة لا ترتقي لحجم الكارثة. أما القوى الغربية، فتبدو عاجزة أو غير مبالية، منشغلة بأزمات أخرى.
صمت العواصم العربية لا يحمي السيادة، بل يمنح الضوء الأخضر لتكرار المذابح في مدن أخرى. إن تجاهل ما يحدث في الفاشر ليس فقط تخلياً عن أهل دارفور، بل تخلياً عن معنى العدل والمسؤولية الأخلاقية المشتركة.
المطلوب اليوم ليس الشفقة، بل تحرك جاد ومسؤول.
– يجب فرض حظر فوري على القصف الجوي والمدفعي في المناطق المدنية.
– يجب فتح ممرات إنسانية بإشراف دولي للوصول إلى مئات الآلاف من المحاصرين.
– يجب إرسال بعثة رقابة ميدانية تابعة للأمم المتحدة أو الاتحاد الإفريقي.
– ويجب البدء فوراً في تحقيق دولي في جرائم الحرب المرتكبة، وتقديم المسؤولين عنها للعدالة، بمن فيهم الممولون الإقليميون.
إن الفاشر اليوم ليست مجرد ساحة قتال، بل اختبار أخلاقي وسياسي للنظام الدولي بأسره. كما كانت غروزني في 1999، أو حلب في 2016، قد تُسجَّل الفاشر في سجل المدن التي خذلها العالم وتخلى عنها وهي تحترق.
فلنقلها بوضوح:
ألا يُقال إن الفاشر استغاثت… والعالم لاذ بالصمت.
ألا يُقال إن النساء دُفنّ في منازلهن… والعدالة كانت غائبة.
ألا يُقال إن السودان نزف… بينما كانت العواصم تنظر إلى جهة أخرى.
رغم القصف المكثف، والحصار الخانق، ظل الجيش السوداني والقوات المشتركة في الفاشر صامدين في مواقعهم، يدافعون عن المدينة بشراسة نادرة. ففي وجه هجوم منظم تقوده قوات الدعم السريع مدعومة بميليشيات قبلية وتسليح خارجي، تمكنت القوات النظامية من إفشال خطة الاجتياح الكامل. ما سُمي بالخطة (ب) للدعم السريع، والتي كانت تهدف إلى إسقاط الفاشر خلال 72 ساعة، تحطّمت على صخرة الصمود العسكري والمدني معًا. لقد أثبتت المعركة أن الفاشر ليست ساحة سهلة، وأن إرادة المدافعين عنها أقوى من الحصار والجوع والنار.
ومع اتساع رقعة المجازر، لم يصدر عن الجامعة العربية أي موقف فاعل. غابت الدعوات لاجتماع طارئ، وغاب الحضور حتى في المأساة الإنسانية. وكأن السودان لا يزال خارج خريطة الأولويات العربية.
لم يكن استهداف الفاشر عبثيًا. موقعها الجغرافي الذي يربط دارفور بالشمال والشرق يجعلها مفتاحًا للسيطرة أو للمقاومة. سقوطها كان سيمنح الدعم السريع شريانًا استراتيجيًا للزحف نحو كردفان ووسط السودان.
وبينما خذلت وسائل الإعلام الكبرى هذا الحصار، كانت الشهادات الفردية، والمقاطع المصورة التي تسربت من داخل المدينة، هي النافذة الوحيدة التي وثقت الكارثة. لم تكن الفاشر تحت القصف فقط، بل كانت أيضًا تحت حصار إعلامي خانق.
في مشهد نادر التكرار، قاتل الجنود جنبًا إلى جنب مع شباب الأحياء الشعبية، يشتركون في الحماية، وفي نقل الجرحى، وفي توزيع ما تبقى من الطعام. لقد صمدت الفاشر بسواعد أبنائها، بجيشها ومواطنيها على حد سواء.
لقد أثبت صمود القوات المسلحة السودانية والقوات النظامية المشتركة في الفاشر، أن مشروع آل دقلو للهيمنة على دارفور يمكن كسره إذا وُجد العزم والإرادة. فالمعركة لم تكن فقط للدفاع عن المدينة، بل كانت لكسر خطة ممنهجة تهدف إلى إسقاط كل دارفور تحت سلطة الميليشيا وتحويلها إلى كيان موازٍ للدولة. وبهذا الصمود، أُفشل المخطط السياسي والعسكري الذي كانت تعول عليه قيادة الدعم السريع، وأُثبت أن دارفور لا تزال تقاوم بعقيدتها الوطنية ومكوناتها النظامية والشعبية.
عن الكاتب:
د. عبد الناصر سلم حامد، باحث وخبير سوداني في إدارة الأزمات والنزاعات المسلحة، ومدير برنامج السودان وشرق إفريقيا بمركز فوكس للبحوث – السويد. شغل منصب مفوض في مفوضية حقوق الإنسان بالسودان (2016–2019)، ومديرًا للمركز الإفريقي لدراسات حقوق الإنسان في السويد (2011–2017). له إسهامات متعددة في توثيق الفظائع، وتحليل النزاعات المسلحة، وصياغة سياسات العدالة الانتقالية في مناطق الصراع.
مدير برنامج السودان وشرق إفريقيا – مركز فوكس للبحوث (السويد)