عيد الأضحى المغربي بدون تقديم الأضاحي

الدكتور طارق ليساوي
بمناسبة عيد الأضحى المبارك أتوجه بإسمي و باسم فريق برنامج “إقتصاد × سياسة” بأحر التهاني لجمهور القراء و المشاهدين، عيد أضحى مبارك عليكم وعلى أحبابكم ، أعاده الله علينا وعليكم بالصحة والطمأنينة والفرج القريب وجعل الله أيامكم أعيادًا مليئة بالرضا والسعادة، وكتب لنا ولكم القبول والأجر..وفي هذا العيد، لا ننسى غزة الجريحة، التي تعيش العيد تحت دخان الحرب وألم الفقد..اللهم كن معهم، وبدّل خوفهم أمانًا، واحفظ أرواحهم، وارزقهم النصر والسكينة .. وكل عام وأنتم بخير، وقلوبنا معلّقة بدعاء الحرية والفرج لأهلنا الصامدين في غزة..
العيد الكبير
و من المفارقات أن المغاربة الذين يسمون هذا العيد ب”العيد الكبير” ، يحتفلون بعيدهم دون ذبح للأضحية و دون الطقوس المصاحبة للأضحية ..ومن يتابع الأجواء يلاحظ حالة من الحزن الظاهر التي تخيم على الأجواء مقارنة بالسنوات الماضية ، سكون غير مسبوق في صبيحة يوم إستثنائي يوم “اللاعيد”…الناس بمنازلهم كالأموات…لا تسمع للناس حسا و لا ركزا ، شخصيا أشعر بأن الأمر غير عادي ، صحيح أني منذ الحرب الظالمة على غزة أشعر بأني حزين ، لكن عيد المغاربة لسنة 1446 هجرية، عيد منقوص ، و هنا علينا أن نتوجه بطرح السؤال الصحيح و السليم : ما الذي حال دوننا ودون العيد هذه السنة، فبتنا كما لو أننا عدنا لزمن الجوع، حيث لا ضرع ولا زرع؟…ما الذي يجعل بلدا صحراويا كموريتانيا، يقيم الشعيرة ومن خلفه 30 مليون رأس غنم، يصدر جزءا منها، و”بلد السدود” لا يقدر على ذلك لا إنتاجا ولا استيرادا؟…هل حقا البلاد تعيش أزمة إقتصادية خانقة ؟ إذا كانت البلاد تعيش في أزمة فلماذا يتم صرف الملايير من أجل بناء الملاعب ؟ لماذا المغرب يتصدر لائحة المصدريين للمنتجات الشديدة الاستهلاك للماء ، لكن هذه المياه المصدرة لماذا لم توجه لإنقاذ القطيع و تأمين الأمن الغذائي للمغاربة و تأمين أكباش العيد ؟
سنوات المنع
لكن على أرض الواقع و من يتابع حركة الأسواق يلاحظ تزايد الطلب على لحوم الخرفان والعجول، لدرجة أن أحشاء الخروف بلغت أثمنة قياسية ، كما إرتفعت أسعار اللحم بشكل هستيري، وهذا يدفعنا إلى طرح سؤال هل الغرض من الإهابة هو المحافظة على القطيع الوطني؟ أم منع الذبح و تحديدا يوم العيد و ما يتبعه من أيام التشريق ؟
لقد أشدنا منذ اللحظات الأولى بقرار العاهل المغربي الذي أهاب فيه بعدم ذبح الأضاحي هذه السنة، في رسالة وجهها للمواطنين في فبراير/شباط الماضي، وتلا وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق الرسالة الملكية التي دعت المواطنين إلى عدم القيام بشعيرة أضحية العيد لهذه السنة، على أن يقوم ملك البلاد بذبحها نيابة عنهم سيرا على السنة النبوية..و الرسالة عزت القرار إلى التحديات المناخية والاقتصادية التي أدت إلى تسجيل تراجع كبير في أعداد الماشية، مشيرة إلى أن القيام بهذه السُنة في الظروف الصعبة التي تشهدها المملكة سيلحق ضررا محققا بفئات كبيرة من المواطنين، لا سيما ذوي الدخل المحدود.
و ليست هذه المرة الأولى التي تُلغى فيها شعيرة ذبح الأضاحي في المغرب، إذ حصل ذلك ثلاث مرات في السابق في عهد الملك الراحل الحسن الثاني ، و فيما يلي سرد موجز لحيثيات المنع :
حرب الرمال
وكانت المرة الأولى التي يلغى فيه النحر على المغاربة سنة 1963 بعد جلوس الملك الراحل الحسن الثاني على العرش بعامين، إذ دعا الملك الحسن الثاني المغاربة إلى عدم ذبح الأضاحي..وذلك بسبب ما يسمى “حرب الرمال” التي استنزفت المغرب اقتصاديًا، التي أدت إلى أزمة مالية خانقة أرخت بظلالها على جلّ المغاربة، وصلت إلى حدّ امتناعهم عن الاحتفال بعيد الأضحى، حين صدر قرار ملكي من قِبَل الراحل الحسن الثاني يمنعُ بموجبه المغاربة من جزء مهم من ممارستهم الدينية، التي هي هو نحر الأضحية خلال العيد.
التقويم الهيكلي
وفي العام 1981، قرر الملك الراحل الحسن الثاني منع شعيرة عيد الأضحى بسبب أزمة اقتصادية شهدها المغرب آنذاك، و تعود الأزمة لتداعيات برنامج التقويم الهيكلي إضافة إلى اشتداد سنوات الجفاف، كثيرون امتثلوا لهذا القرار فيما عارضه آخرون سرا، إلا أن البعض عبر عن هذا الرفض في مجازفة بشكل علني ، وكان ذلك تحديدا بمدينة كلميمة في الجنوب الشرقي لبلاد، حينما أقدم مواطنون “مجهولون” على ذبح كلبين ووضع جثتيهما على واجهة إحدى المباني، مع كتابة عبارات مناوئة لقرار الملك
هذه الخطوة التي كانت تعبيرا عن “رفض قرار الملك الراحل” كلفت الساكنة الثمن غاليا، إذ أدت إلى اعتقال وتعذيب عدد من سكان المدينة في تلك السنة، وبعدها بأربع سنوات تكرّر التعذيب والاعتقال بقرية قريبة على خلفية القضية ذاتها، في واحد من أشهر ملفات سنوات الرصاص بالمغرب.
منع عام 1996
مضت 28 سنة على آخر قرار ألغي فيه ذبح الأضحية بالمغرب، من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، بسبب الجفاف الذي مر به المغرب سنة 1995 ولذلك فقد تم إلغاء شعيرة عيد الأضحى سنة 1996، تفاديا ل”ضرر إنه محقق”.ووقتها وجّه الحسن الثاني رسالة إلى الشعب المغربي، تلاها عنه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية آنذاك، عبد الكبير العلوي المدغري، قال فيها إن سنوات الجفاف التي مرّت بالمغرب، خاصة عام 1995، تدفع إلى قرار إلغاء الأضاحي، متحدثًا عن أن “ذبح الأضحية سنة مؤكدة لكن إقامتها في هذه الظروف الصعبة من شأنه أن يتسبب في ضرر محقق”.
وتابع أن ذبح الأضاحي سيؤثر على مخزون المغرب منها، زيادة على ما سيطرأ على أسعارها من ارتفاع “يضرّ بالغالبية العظمى من أبناء الشعب المغربي، لا سيما ذوي الدخل المحدود”. وقرّر الملك ذبح كبش نيابة عن المغاربة الذين التزمت غالبيتهم بهذا المنع، رغم ما تشير إليه وسائل إعلام مغربية من انتشار بعض العمليات السرية للذبح..
المخطط الأسود
منذ أخر منع لسنة 1996، مارس المغاربة شعيرة ذبح الأضحية بشكل سلس و لم يكن أحد ليتصور أن يأتي يوم يضطر معه المغاربة إلى إستيراد الخروف من رومانيا و إسبانيا .. لكن مع مجيء حكومة أخنوش و بعد نحو عقد من تبني المخطط الأخضر ، الذي أشرف على تنفيذه السيد أخنوش بعد ان صاغه خبراء مؤسسة ماكينزي، هذا المخطط الأسود أحرق الأخضر و اليابس ..
الفراقشية الأحرار
و تبعا لهذا الإنجاز الكارثي، بدأت تتصاعد الدعوات إلى إلغاء شعيرة ذبح الأضاحي كلما إقترب عيد الأضحى، و في السنة الماضية خصصت الحكومة أموال عمومية لدعم إستيراد الخروف و خصصت دعم و قدره 500 درهم على كل رأس غنم تم استيراده، و مع ذلك اضطر المغاربة إلى شراء خرفان العيد بأثمنة خيالية ، و تبين أن أموال الدعم إستفاد منها بعض “الفراقشية الأحرار” المقربين من حزب السيد رئيس الحكومة، و إنهم أحرار في أفعالهم و ممارساتهم، فقد نهبوا أموال عمومية دون حسيب أو رقيب..
و الواقع أننا وقفنا السنة الماضية على مأسي إنسانية بسبب ارتفاع أسعار الأضحية مما حرم الكثير من الأسر من الفرحة بشعيرة ذات رمزية خاصة في المخيال الشعبي ، فلا عيد بدون ذبح الأضحية ، و هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها ، و تبعا لذلك ، كنت من أوائل من أشادوا بالقرار الملكي الذي رفع الحرج عن كثير من المغاربة ..
فتح تحقيق
لكن ذلك لا يمنع من فتح تحقيق عن السبب الذي جعل المغاربة عاجزون عن شراء الأضحية ، رغم أن الدولة خصصت أموال طائلة لدعم الاستيراد ، و هذه الأموال لو تم توزيعها كدعم عيني على فقراء المغرب لأمكن من معالجة الأزمة ، هذا مع التأكيد على أن ممارسة الأسر المغربية لشعيرة الأضحية تنخفض مع ارتفاع مستوى المعيشة، حيث أن 25.1 بالمائة من الأسر الأكثر يسرا لا تقوم بممارسة شعيرة عيد الأضحية، بحسب تقرير للمندوبية السامية للتخطيط..
سنوات عجاف
صحيح أن المغرب يمر بسنوات جفاف عجاف، لكن ذلك لا يلغي بأن الفساد و سوء إدارة الموارد الوطنية أحد أهم الأسباب في حالة الفقر المائي و اتساع دائرة الجوع و سوء التغدية و هذر الأموال العمومية، و إفقار شرائح اجتماعية واسعة بفعل التضخم و تضارب المصالح و الاحتكار و ضعف المراقبة و المحاسبة، فإلغاء الشعيرة لهذا العام هي نتاج للمضاربات و الشناقة والفراقشية الذين ظهروا و برزوا بوضوح خلال الموسم الماضي..
مقاصد المنع
للأسف ، من خلال متابعتي للوضع العام وجدت بأن مقاصد المنع لم تتحقق ، بدليل التهافت على شراء اللحوم و ارتفاع الأسعار ، فبعد ان سجلنا السنة الماضية تضخما في أرباح الفراقشية الأحرار ، فهذه السنة اتسعت الدائرة ، و تم تفقير فئات واسعة من الكسابة و صغار الفلاحين الذين قاوموا الجفاف و الغلاء و الارتفاع المهول في أسعار الأعلاف لإنقاذ الماشية على أمل إسترداد أموالهم ، لكن جاء المنع ليفقرهم و يذهب بمدخراتهم و أغنامهم التي ذبحت تم شراءها بأبخس الأثمان و باعها فراقشية المجازر بأغلى الأثمان ..
البلاد لا تعاني من نذرة الموارد و إنما سوء الإدارة و كثرة الفاسدين ، و أستطيع الجزم بأن الخيارات متاحة لتجاوز و إدارة الأزمة ، و أن المنع و إرهاب المواطن بتبني سياسة تعود لسنوات الرصاص لن يخدم المصلحة العامة و الخاصة، البلاد تحتاج لشجاعة و صرامة سياسية في التعامل مع لصوص المال العام و المتاجرين في أزمات البلاد و العباد ، ينبغي ان نتعامل بمسؤولية و جدية من شعور قاعدة واسعة من المغاربة بالظلم و القلق ، فالمواطن المغربي أصبح يدفع ثمن أخطاء الدولة من جيبه و قوته و شعائره الدينية.
وما يعمق من المأساة هو سوء تنزيل القرار الملكي الذي كان واضحا و صريحا ، فالقرار لم يتضمن المنع الصريح و إنما أهاب بالمواطنين ، فالقرار رفع الحرج على الفقراء و لكن لم يمنع القادرين و الراغبين في نحر الأضحية ، لكن الممارسة العملية جاءت مغايرة و لجأت السلطات العمومية إلى المنع بوسائل مختلفة .
و علينا التأكيد أيضا أن قرار إلغاء الأضحية كشف حقيقة مؤلمة وهي أن كثيرون من المغاربة لم يكونوا يؤدون شعيرة ذبح الأضحية تعبّدًا وتقربًا إلى الله، بل كانت مجرد عادة موسمية تُشبع بطونهم ببروتين حيواني ، والدليل على ذلك كثرة الزحام أمام محلات الجزارين وطول الطوابير الطويلة دون ان ننسى الذبائح السرية، فكثيرون ذبحوا قبل العيد بأيام و بعضهم سيذبح بعد مرور أيام التشريق ، فأي منطق هذا يا عباد الله ؟!.. هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين” (الآية 138 آل عمران) ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
كاتب وأستاذ جامعي من المغرب