حمد التميمي: الفجوة الاجتماعية في العالم العربي: أرقام مدهشة والحاجة إلى تدخل عاجل

حمد التميمي: الفجوة الاجتماعية في العالم العربي: أرقام مدهشة والحاجة إلى تدخل عاجل

 

حمد التميمي

بينما تتقدم المجتمعات نحو المستقبل، لا يزال الملايين في العالم العربي محرومين من أبسط حقوقهم، فهل هذا مجرد خلل اقتصادي، أم أنه نتيجة لنظام يُبقي التفاوت قائمًا؟
في عالم تُطلق فيه الوعود، بينما تتسع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، يصبح الحديث عن العدالة الاجتماعية مجرد شعار فارغ يُردد في المؤتمرات والتقارير الرسمية، بينما الواقع يقول شيئًا آخر. الأرقام تكشف عن ملايين الأشخاص الذين يعانون من الحرمان الاقتصادي والاجتماعي، وسط أنظمة لا تضعهم في حساباتها، وكأن التفاوت لم يعد نتيجة عشوائية، بل سياسة مدروسة تخدم مصالح محددة.
وفقًا لـتقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تواجه المنطقة العربية تحديات كبرى تؤثر على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، حيث تتفاقم معدلات الفقر، البطالة، وانعدام الفرص، مما يترك شريحة ضخمة من السكان خارج النظام الاقتصادي الفعّال. التقرير يسلط الضوء على أن الفجوة في الوصول إلى التعليم والصحة تؤثر على فرص التنمية، وتجعل من الاستقرار الاجتماعي هدفًا بعيد المنال.
التفاوت الاجتماعي ليس ظاهرة حديثة، بل تاريخ طويل من الاستغلال الاقتصادي والسياسي. في روما القديمة، كان العبيد يشكلون أساس الاقتصاد، حيث عملوا في الحقول والمناجم دون أي حقوق. هذا النظام أدى إلى تمرد واسع النطاق قاده سبارتاكوس في عام 73 ق.م، عندما قاد آلاف العبيد في ثورة ضد النظام الروماني الذي كان يكرس التفاوت الاجتماعي لصالح النخب الحاكمة. رغم نجاح الثوار في البداية، إلا أن الجيش الروماني سحق الثورة بوحشية، وصلب أكثر من 6,000 متمرد على طول طريق أبيان كتحذير لأي محاولة تحدٍ للنظام القائم.
هذه القصة تُعيدنا إلى واقعنا الحديث، حيث تتكرر نفس الديناميكيات: نخب اقتصادية تسيطر على الموارد، وفئات محرومة تكافح من أجل البقاء. وفقًا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن أحد التحديات الكبرى في المنطقة هو غياب التكافؤ في الفرص، حيث يتمركز النمو الاقتصادي في يد قلة بينما تزداد الفجوة بين الفئات الاجتماعية. وهذا يتفق مع بيانات مركز كارنيغي للشرق الأوسط، الذي أشار إلى أن 10% من السكان الأعلى دخلًا يسيطرون على 64% من إجمالي الدخل، بينما يحصل أفقر 50% على 9% فقط، مما يعكس عدم تكافؤ توزيع الثروة وتركّزها في يد النخب الاقتصادية.
في عام 1381، شهدت إنجلترا واحدة من أولى الثورات الشعبية الكبرى، عندما انتفض الفلاحون ضد الضرائب الباهظة والاستغلال الاقتصادي الذي فرضته الحكومة عليهم. بقيادة وات تايلر، طالب الفلاحون بإلغاء العبودية الإقطاعية وتحقيق العدالة الاجتماعية، لكن الحكومة قمعت الثورة بوحشية، واغتالت قائدها، مما أدى إلى إجهاض الحراك الاجتماعي الذي كان يسعى لتغيير توزيع الثروة.
اليوم نجد صدى هذه الأحداث في الواقع العربي، حيث تواجه الفئات الأكثر ضعفًا استغلالًا اقتصاديًا مشابهًا، إذ لا تقتصر الفجوة على الدخل فقط، بل تمتد إلى التعليم، الصحة، الحماية الاجتماعية، وإمكانية الوصول إلى التكنولوجيا.
وفقًا لتقرير حديث صادر عن الإسكوا، يكشف التقرير أرقامًا مقلقة، حيث يشير إلى أن 78 مليون شخص بالغ يعانون من الأمية، و15.3 مليون شخص يواجهون البطالة، و174 مليون فرد يفتقدون إلى الخدمات الصحية الأساسية، و154 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بينما يعاني 56 مليونًا من نقص في التغذية. هذه الأرقام تؤكد أن الأزمة ليست مجرد خلل اقتصادي، بل نظام يترك فئات واسعة من المجتمع في حالة تهميش مستمر.
لكن هل يمكن تفادي هذا المصير؟ الحلول لا تكمن فقط في الإصلاحات الاقتصادية، بل في تغيير المنظومة بالكامل. لا يمكن معالجة هذه الأزمات دون إصلاح السياسات العامة بحيث يتم التركيز على إعادة توزيع الموارد بشكل أكثر عدلًا، واعتماد سياسات ضريبية متوازنة تمنع تركز الثروة في يد قلة وتعيد هيكلة الحماية الاجتماعية لتشمل الفئات المهمشة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب العمل على تمكين الفئات الأكثر ضعفًا، عبر دعم التعليم المجاني للشرائح الأقل دخلًا، وتوفير فرص اقتصادية للشباب والنساء من خلال سياسات توظيف عادلة ودعم المشاريع الصغيرة وريادة الأعمال، إلى جانب حماية العاملين في القطاع غير النظامي بضمان حقوقهم الأساسية في الأجور والمعاشات.
أما دور المجتمع المدني والقطاع الخاص، فهو لا يقل أهمية، حيث يمكن للمؤسسات غير الحكومية والشركات الاستثمار في برامج تنمية مستدامة تركز على الابتكار والتوظيف، فضلًا عن دعم المبادرات التي تعزز الاندماج الاقتصادي للفئات المهمشة.
ما يعزز هذه الرؤية هو الاحتجاجات والحركات الاجتماعية التي شهدتها بعض الدول العربية في العقد الماضي، حيث خرج آلاف الأشخاص مطالبين بتغييرات جذرية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. كانت هذه الاحتجاجات تعبيرًا واضحًا عن الغضب الشعبي الناتج عن التفاوت الاقتصادي المدقع، حيث لعبت البطالة، غياب الخدمات الأساسية، وتركّز الثروة في يد قلة دورًا أساسيًا في إشعال الغضب الجماهيري.
ومع اقتراب عام 2030، الذي يمثل موعد تحقيق أهداف التنمية المستدامة، يصبح من الضروري تكثيف الجهود لرأب هذه الفجوات. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن بعض الدول العربية تواجه تفاوتًا اقتصاديًا واجتماعيًا أكثر حدة من غيرها، مما يجعل مسألة الإصلاح أكثر إلحاحًا في هذه المناطق. ولكن السؤال الحقيقي الذي يبقى مفتوحًا هو: هل هناك إرادة سياسية واقتصادية كافية لتحقيق هذا التحول، أم أن التفاوت الاجتماعي سيظل سياسة غير معلنة تخدم مصالح محددة؟
كاتب قطري