المحادثات الأمريكية الإيرانية: مواجهة القوى في مركز النظام العالمي الجديد

ميشيل شحادة
تشكل المفاوضات الأمريكية الإيرانية إحدى أبرز بؤر التوتر العالمي التي تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى وتنعكس آثارها على مجمل توازنات النظام الدولي الآخذ في التشكل. فهذه المفاوضات لا تقتصر على نقاش تقني حول البرنامج النووي الإيراني، بل هي في جوهرها مواجهة استراتيجية مفتوحة، تحمل في طياتها أسئلة عميقة حول مستقبل الهيمنة الأمريكية، وصعود القوى البديلة، وشكل النظام العالمي المقبل.
إيران لم تعد مجرد “دولة متمردة” كما تصفها واشنطن، بل باتت ركيزة أساسية في محور عالمي جديد يتحدى النظام أحادي القطبية الذي تزعّمته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. فإلى جانب روسيا والصين، تمثل إيران طرفاً مؤثراً في منظومة “البريكس” الموسّعة، التي تتقدم بثبات نحو إعادة هيكلة الاقتصاد والسياسة الدوليين، بعيداً عن سطوة الدولار والمؤسسات المالية الغربية.
إن الجغرافيا السياسية لإيران تمنحها موقعاً بالغ الأهمية في الصراع بين الغرب من جهة، ومحور الشرق الصاعد من جهة أخرى. فهي تقع على تماس مباشر مع مضيق هرمز، أحد أهم شرايين الطاقة في العالم، وتشكل بوابة استراتيجية بين آسيا الوسطى والخليج، وبين القوقاز والعالم العربي. وهي، أيضاً، الجار الثقيل لكل من أفغانستان والعراق وسوريا، وصاحبة نفوذ سياسي وأمني واسع في لبنان واليمن وفلسطين، ما يجعلها فاعلاً لا يمكن تجاهله في معادلات الأمن الإقليمي.
ولا يمكن فهم المفاوضات الأمريكية الإيرانية دون التوقف عند دور الكيان الصهيوني، الذي يشكل رأس الحربة في المشروع الغربي في المنطقة. فـ “إسرائيل،” التي تعتبر نفسها المستفيد الأكبر من حالة الحصار والعزل المفروضة على إيران، تنظر إلى أي اتفاق محتمل بين واشنطن وطهران بعين القلق، خاصة إذا جاء ضمن شروط تحفظ لإيران قدراتها التكنولوجية والسيادية.
الأهداف المتضادة
لفهم اعمق لهذه المفاوضات، لا بد من العودة إلى دوافع كل طرف
الولايات المتحدة، ومنذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، تسعى لإعادة إيران إلى “بيت الطاعة”، وفق منظورها الاستعماري التقليدي. فهي لا تكتفي بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، بل تتطلع إلى تحجيمها جيوسياسياً، وتفكيك عناصر قوتها العسكرية والتكنولوجية، وتحجيم نفوذها الإقليمي، بل وإعادة إنتاج دورها ان امكنها كما كان زمن الشاه: دولة تابعة، ضعيفة، تعتمد على الغرب في أمنها وتقدمها.
أما إيران، فتخوض معركة من أجل السيادة والاستقلال الوطني. هدفها الرئيس هو الحفاظ على حقها في امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية، وتطوير قدراتها الدفاعية، ورفض التدخل في سياساتها الداخلية والخارجية. وهي تعتبر أن أي تراجع عن هذه المبادئ سيشكل مساساً بجوهر ثورتها واستقلالها، وخضوعاً غير مقبول لابتزاز القوى العظمى.
من هنا، فإن الخطوط الحمراء الإيرانية واضحة: لا تنازل عن حق تخصيب اليورانيوم، لا قبول بتفكيك البرنامج الصاروخي، ولا توقف عن دعم حركات المقاومة في المنطقة، من فلسطين إلى لبنان واليمن.
أميركا بين فكيّ التهديد الصيني والرغبة في الهيمنة
الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وإن اختلفت في الأسلوب، اتفقت على اعتبار إيران تهديداً استراتيجياً لمصالح واشنطن في المنطقة. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة ليست في وارد الدخول في حرب شاملة مع إيران، ليس حباً في السلام، بل لأن الأولويات الاستراتيجية تغيرت.
فواشنطن، خاصة في عهد ترامب، أدركت أن الغرق في حروب الشرق الأوسط يُضعف قدرتها على مواجهة التحدي الأكبر: الصين، المنافس الاقتصادي والعسكري المتنامي، والذي يهدد بإزاحة الولايات المتحدة عن موقعها كقوة عظمى مهيمنة.
لذا، تسعى واشنطن إلى “احتواء” إيران من دون الانزلاق إلى حرب مباشرة، عبر الضغط الاقتصادي، والحصار السياسي، والعقوبات، ومحاولة دفع طهران إلى تقديم تنازلات جوهرية على طاولة المفاوضات.
مرت المفاوضات بين واشنطن وطهران بعدة جولات، وكانت تتأرجح بين التفاؤل والتصعيد. فرغم المحاولات العمانية لتقريب وجهات النظر، فإن العقبة الرئيسية بقيت في الموقف الأمريكي المتشدد، الذي يطالب بالتفاوض على اتفاق جديد يتضمن ملفي الصواريخ والنفوذ الإقليمي، وهو ما ترفضه إيران بشكل قاطع
في المقابل، قدمت إيران كثيراً من المبادرات لتطمين الغرب بشأن سلمية برنامجها النووي، ووافقت على عودة الرقابة الدولية، بل وناقشت إمكانية تقليص نسبة تخصيب اليورانيوم في حال رُفعت العقوبات عنها. لكنها رفضت النموذج الليبي، القائم على التفكيك الكامل للقدرات مقابل وعود هشّة، أثبتت التجربة أنها لا تصمد.
وفي الجولة الخامسة من المفاوضات، كادت الأمور أن تنهار تماماً لولا دور الوساطة العماني، الذي أعاد طرح أفكار جنّبت المفاوضات الانهيار الكامل، وإن لم تحدد بعد ملامح جولة سادسة، ما يعكس غموض المسار الحالي.
الكيان الصهيوني يراقب هذه المفاوضات بكثير من الريبة والقلق، إذ يدرك أن أي اتفاق لا يُفرّغ إيران من قدراتها التقنية سيعني أن طهران باتت على بُعد خطوات من امتلاك القدرة النووية الكاملة – حتى وإن لم تصنع القنبلة فعلياً. هذا الوضع، الذي يُعرف بـ “دولة الحافة النووية”، كما هو حال اليابان أو ألمانيا، يجعل من إيران لاعباً لا يمكن تهديده أو تهميشه بسهولة.
بل الأخطر، أن إعادة إدماج إيران في النظام العالمي، ورفع العقوبات عنها، سيعزز موقعها السياسي والاقتصادي، ويمنحها شرعية دولية، ما يتعارض تماماً مع المشروع الصهيوني الرامي إلى إبقاء إيران دولة معزولة ومطوّقة.
حتى الآن، تجري المفاوضات بشكل غير مباشر، عبر وساطة دولة عمان. لكن في حال تحولت هذه المفاوضات إلى حوار مباشر، فإن ذلك سيكون مؤشراً على تقدم جوهري في كسر الجليد السياسي، وربما اقتراب لحظة الاتفاق
بعض المصادر الدبلوماسية تشير إلى أن المفاوضات قد بلغت ما يُعرف بـ “مرحلة الخبراء”، وهي مرحلة متقدمة تعني نظرياً أن الطرفين توصّلا إلى تفاهمات أولية حول المبادئ الأساسية، مثل سلمية البرنامج النووي، ورفع العقوبات، وآليات التفتيش والرقابة. لكن الانتقال إلى هذه المرحلة لا يعني أن الطريق أصبح ممهّداً نحو الاتفاق، بل على العكس، فغالباً ما تكون التفاصيل التقنية والقانونية التي يناقشها الخبراء هي الأكثر حساسية وتعقيداً. إذ أن صياغة العبارات في النصوص النهائية، وتحديد الجدول الزمني لتطبيق الالتزامات، والربط بين الإجراءات المتبادلة – كرفع العقوبات مقابل تقليص التخصيب أو تسليم كميات معينة من اليورانيوم – كل ذلك يتطلب دقة بالغة، ويخضع لتوازنات شديدة الدقة بين الثقة وانعدامها. كما أن هذه التفاصيل، رغم ظاهرها الفني، كثيراً ما تخفي في طياتها ألغاماً سياسية قد تُفشل الاتفاق برمّته، أو تؤدي إلى انسحاب أحد الطرفين في اللحظة الأخيرة. لذا، فإن بلوغ مرحلة الخبراء ليس ضمانة للنجاح، بل اختبار لقدرة الطرفين على الالتزام بما تم التفاهم عليه، وتجاوز حسابات الضغط الداخلي والتحريض الخارجي، خاصة من أطراف لا تريد لهذه المفاوضات أن تنجح.
السيناريوهات المحتملة: الاتفاق أو التصعيد
في الواقع، لم يعد أمام الولايات المتحدة الكثير من الخيارات. فهي إما أن تقبل باتفاق جديد لا يحقق كل شروطها، أو أن تعود إلى مسار التصعيد العسكري والاقتصادي، بكل ما يحمله من مخاطر.
وقد صرحت إيران انها تقوم بالاستعداد جيداً لكل الاحتمالات. فقد تبنت سياسة “الاقتصاد المقاوم”، المعتمد على تقوية الإنتاج المحلي، والحد من التبعية، والتوسع في التجارة مع دول البريكس، وخاصة الصين وروسيا. كما عززت تعاونها العسكري والتكنولوجي مع هذه الدول، ووسّعت من دائرة تحالفاتها الإقليمية والدولية. بعبارة أخرى، لم تعد إيران تراهن على الغرب، بل تراكم أدوات صمودها وقدرتها على مواجهة التحديات، حتى وإن فشلت المفاوضات.
إن ما يجري بين إيران والولايات المتحدة يتجاوز حدود الملف النووي؛ إنه صراع على شكل النظام العالمي المقبل. ففي لحظة يتراجع فيها المركز الإمبراطوري الأمريكي أمام صعود قوى جديدة، تحاول واشنطن الحفاظ على هيمنتها لا عبر الشراكة، بل عبر الإخضاع والترهيب.
لكن إيران، التي دفعت أثماناً باهظة في العقود الماضية، تبدو أكثر تصميماً على انتزاع مكانتها كقوة مستقلة. وإذا ما تمسكت بحقوقها ورفضت الانصياع، فستكرّس نفسها كرقم صعب في معادلات الإقليم والعالم. وهنا، لن يكون مصير هذه المفاوضات شأناً ثنائياً، بل مفترق طرق في تشكيل نظام إقليمي ودولي جديد، تُكسر فيه القطبية الواحدة لصالح عالمٍ متعدد الأقطاب.
كاتب فلسطيني