وهم يُدعى إدراك الإسرائيليين

وهم يُدعى إدراك الإسرائيليين

نادية حرحش

من الغباء أن يدّعي أحدهم أنه “يفهم الإسرائيليين”.
لا أدّعي أنني كرّست حياتي كما فعل المفكر المصري عبد الوهاب المسيري لفهم منابع الحركة الصهيونية، ولا لفكّ شيفرة الشعب الذي انبثق منها ليكوّن دولة إسرائيل. لكنّي أستطيع الجزم أن ما قدّمه المسيري من قراءة للفكرة الصهيونية ولليهود داخل إسرائيل تحديداً، يظلّ إسهاماً إستثنائيّاً في الفكر العربي الحديث.
ومع ذلك، لو امتد به العمر وشهد ما نعيشه اليوم، ربما لأعاد النظر في بعض تحليلاته للحركة الصهيونية الناشئة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بعدما تحقّقت نبوءات “الرواد” الصهاينة واحدة تلو الأخرى: أفكارهم، رؤاهم، استراتيجياتهم، وأهدافهم. ربّما كان المسيري، ككثير من العرب، غير قادر على تقبّل فكرة فرض هذا الكيان علينا، وتحوله من “فكرة” إلى “واقع” شاء من شاء وأبى من أبى.

حتى السابع من تشرين، كنت أظن أنني على طريقٍ يُمكن أن يقودني لفهمهم. وربما أسهم وجودي لسنة ونصف داخل بيئة تعليمية إسرائيلية تقدم الرواية اليهودية على كل ما عداها في تسليط الضوء على ما لا يمكن استنباطه مما سبق وشكل انطباعات تكونت لدي من خلال أولئك اليساريين العلمانيين المنادين بالسلام والداعين للعدل والمساواة. من هؤلاء، بدا لي أن أصواتاً مثل المؤرخ إيلان بابيه تمثل وجهاً نقدياً شجاعاً من داخل البنية الإسرائيليّة نفسها؛ فهو لا يكتفي بانتقاد الاحتلال، بل يفكك الأسس التاريخية للصهيونية بوصفها مشروعاً إحلاليّاً، ويتحدّث بلغة لا تختلف كثيراّ عن اللغة التي يستخدمها المناهضون العرب أنفسهم. وجود أمثاله، وإن كانوا قلة، كان يمنحني أملاً في وجود مساحة داخليّة للاعتراض والاختلاف.
أمّا من قدموا بخطى استيطانية مسيانية متطرفة، فلم أعرفهم إلا من خلال الإعلام، أو عبر تصريحات أعضاء الحكومات اليمينية المتعاقبة والكنيست المتشدد.
كنت حتى ذلك الوقت مقتنعة بأن ثمة فروقاً حقيقية بين فئات المجتمع الإسرائيلي، وأن هناك إمكانية للتماهي — أحياناً — مع أنماط الحياة والأفكار والعادات المشتركة، خصوصاً في فضاء العلمانية.
لم أتخيل يوماً أنني سأقترب من دراسة التوراة أو الفكر الصهيوني وتاريخه وفلسفته، لا لرفضٍ مطلق، بل لاعتقاد سابق بأن الاقتراب من تلك العوالم يعني تطبيعاً غير مبرر. لكن مع سنوات الدراسة العليا، من الماجستير إلى الدكتوراه، بدأت أتعامل مع “المسألة اليهودية” كقضية فكرية تستوجب الفهم بمنهجٍ براغماتي عقلاني.
كشفت العملية العسكرية في السابع من تشرين عن مفاجأة استراتيجية مدوّية، ليس فقط للجانب الإسرائيلي، بل للعالم بأسره. فبعد سنوات من افتراض أن حركة حماس منشغلة بفسادها الداخلي، وحكمها غير الكفؤ في غزة، وبعد اعتماد طويل على معلومات استخباراتية قاصرة أو مشوهة، اتضح أن الحركة كانت تعدّ نفسها على مدى سنوات لتلك اللحظة. التنظيم أظهر قدرة ميدانية، وتخطيطا ًطويل الأمد، واستخداماً تكتيكياً مباغتًاً قلب التوازن مؤقتاً.
في تلك اللحظة، بدا — ولأول مرة منذ عقود — أنّ “هزيمتهم” ليست مستحيلة، وأنّ الاختراق الأكبر قد لا يكون عسكرياً فقط، بل معرفياً.
لكن، كما في محطات كثيرة قبلها، تسرّعنا في الحكم، واكتفينا بفهم جزئي، وظننا أنه كافٍ. وما أعقب ذلك من ردّ دمويّ شامل لم يكن مجرد ردّ عسكري، بل كان انفجاراً لمخزون نفسي دفين في الوعي الإسرائيلي واليهودي.
في أعقاب الهجوم، بدا كأنّ ذاكرة الهولوكوست قد استُدعيت دفعة واحدة: الخوف الوجودي، رُهاب الإبادة، الهلع من التكرار. وهذا الخوف — الذي لا يمكن الاستخفاف به — متجذّر في سرديّات نجاة متكررة عبر التاريخ، من آشور وبابل إلى النازية ومحارق أوروبا.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من التأويل لفهم أنّ الخوف من الزوال لا يزال محوريّاً في الهويّة الجماعية اليهوديّة- الإسرائيليّة، خاصّة عندما تتعرض لهزّة مفاجئة في “قدس أقداسها”: أجهزتها الأمنية.
في المقابل، فإنّ التجربة الفلسطينية تبدو ذات منطق آخر. فبينما كان التاريخ اليهودي غالباً ما ينتهي بالانسحاب المؤقّت ثم إعادة البناء، فإنّ الفلسطيني يعيش مأساته في حالة دائمة من الاستمرار، حيث لا تتوقّف الكارثة، بل تتجدّد وتتعاظم. وفي غزة خصوصاً، أصبح الصمود بعينه فعلاً متكرراً وكأنّه هدف نهائيّ.

يمتد الشعور بالخوف والاضطهاد في الوعي اليهودي؛ منذ زمن نبيّ الله إبراهيم عليه السلام، مروراً بيوسف وموسى عليهما السلام، ثم خلال فترات ملوك بني إسرائيل ومملكة يهوذا، التي سقطت تحت ضربات الآشوريين والبابليين.
وتتواصل هذه السلسلة التاريخية مع ثورات المكابيين — أو الحشمونيين — في الحقبة الهلنستية (اليونانية)، وهي الثورات التي نجحت في تأسيس حكم يهودي مستقل استمر لنحو قرن. غير أنّ هذا الحكم انهار بفعل الصراعات الداخلية بين أبناء العائلة الحاكمة، وتدخّل الإمبراطورية الرومانية.
وقد انتهى فعلياً عندما نصّب الرومان هيرودس الكبير حاكماً على يهوذا، مُنهين بذلك عهد الحشمونيين، ومُحوّلين الحكم إلى سلطة تابعة لهم. ثم تَبع ذلك بطرد اليهود من القدس في الحقبة الرومانية اللاحقة، بعد سلسلة من الثورات والقمع.
كل تلك المحطات التاريخية — من سقوط الممالك القديمة، إلى انهيار حكم المكابيين، وصولاً إلى الشتات الروماني — شكّلت أساساً متيناً لذاكرة جماعيّة يهوديّة يتكرر فيها المنفى، والاضطهاد، والخلاص المؤجّل. هذه الذّاكرة، بكل ما تحمله من خوف متجذّر، لا تزال حاضرة بقوّة في تشكيل الهويّة اليهوديّة المعاصرة، خصوصاً في إسرائيل.
غير أنّ المشهد اليومي الذي نراه في فلسطين، لا سيّما في غزّة، يكاد يعكس تلك الأساطير الثوريّة القديمة، ولكن من جهة أخرى تماماً.
فكأنّ الفلسطينيين اليوم يعيدون تمثيل سرديّات التّمرّد والصّمود التي ارتبطت تاريخياً بثورات اليهود المكابيين ومقاتلي حصن مساده وثورة بار كوكبا، ولكن هذه المرة من موقع الضّحية في مواجهة قوة استعمارية.
لم تعد البطولة حكراً على سرديّة دينيّة أو قوميّة بعينها، بل باتت استجابة إنسانية تتكرر كلّما تصدّى أصحاب الأرض لعدوّ يفوقهم قوة، ويصرّ على نزع شرعيّتهم ووجودهم. وهكذا ربّما كان الفلسطينيون، هم من يكتب اليوم فصلاّ جديداً من أسطورة التصدّي الأزليّة لصاحب الحق على من يفوقه قوّة.
بعد السابع من تشرين، بدا أنّ الشخصية اليهوديّة — لا سيما في داخل إسرائيل — قد استعادت رموزها الصّهيونية بكثافة، وارتدت “نجمة داوود” ليس فقط كرمز ديني أو قومي، بل كدرع نفسي وفكري.
في لحظة الخطر الوجودي، بدا كأن تعاليم هرتسل، وجابوتنسكي، وبن غوريون قد بُعثت من جديد؛ لتشكل خارطة الطريق الوحيدة نحو بقاء الدولة: التفوق، والتميّز، والتكتل في وجه الآخر، كما رسمها منظّرو الصهيونية منذ بداياتها.
في هذا السياق، عادت مفاهيم “الاستثنائيّة اليهوديّة” و”الحقّ التاريخي”، وحتى “النيتشوية الداروينية الصهيونية” — تلك التي تحتفي بالقوة وتُقصي الضعف — إلى واجهة الخطاب السياسي والاجتماعي، مبررة الهجوم باعتباره دفاعاً عن الوجود ذاته.
وهي ذات المفاهيم التي لطالما نقدها مؤرخون إسرائيليّون من الداخل، مثل شلومو ساند، الذي رأى أن “الهوية اليهودية القومية” ليست سوى بناء أيديولوجي حديث، صُمّم لتبرير مشروع استيطاني إحلالي، لا يستند إلى سرديّة دينيّة أو تاريخيّة راسخة، بل إلى إرادة تفوّق واستمرار السيطرة.

ربما بشيء من السذاجة، ولكن بحسن نيّة، قلت يوماً لإسرائيلي: “ربما ما جرى يجعلنا أقرب إلى فهم ما نمر به جميعاً، عندما تتساوى المأساة.”
لكنه لم يرد، واكتفى بنظرات حادّة كأنها تنطق بحرائق بدأت بالاشتعال للتو: “كيف تجرؤين على مساواة ألمكم بألمي؟”
فهمت من عينيه ما لم يُقل من قبل: نعم، يمكنهم أن يتعاطفوا، أن يُظهروا الحزن، أن يرفعوا شعار المساواة — لكن فقط حين تكون أيديهم هي العليا، وضميرهم هو من يمنح الشرعية للحزن.
نحن، في نظر هذا العالم المتحضر، لسنا متساوين. ولا تجرؤي— أنت أو غيرك — على مساواة دموعنا بدموعهم.
وما لمحته في عينيه التائهتين في إعصار الغضب القادم، كان صدى لما يصرخ به النظام العالمي “الليبرالي”: نحن لسنا بشراً كاملين، بل كائنات من درجة ثانية، مؤهلة فقط لتلقّي التّعاطف المشروط، لا الحقوق الكاملة.
خدعنا أنفسنا حين صدقنا أن شعارات حقوق الإنسان تنطبق علينا. فالعالم لا يتحدث عن عدالة حقيقية، بل عن توازن شكلي. كما خدعنا أنفسنا عندما ظننا بأنهم لن يتمكنوا من الإنغماس في المعارك فيما يتجاوز القصف عن بعد أو ردة فعل آنية، وإن طال أمدها. وكذلك لم نحسب حساباً لقدرتهم على التحمل، والأهم، لنظرتهم لاستخدام الحرب كما لو أنها ضرورة وجودية، لا مجرد خيار سياسيّ.
ويكفي أن نعود إلى ما كتبه عبد الوهاب المسيري لنفهم كيف فُهمت الحرب داخل العقل الصهيوني الحديث. فالصهيونية، كما يقول، “ليست فقط مشروعاً ذا مرجعية دينية، بل هي ظاهرة غربية استعمارية استيطانية إحلاليّة، تفهم وجودها نفسه كصراع دائم، لا يحتمل التعايش مع الآخر.”
وقد نقل في موسوعته عن أحد مسؤولي الوكالة اليهودية قوله: “لا مكان لشعبين في هذا البلد… يجب نقل العرب من هنا ومن الدول المجاورة، جميعاً. وبعد انتهاء عملية النقل، يمكن للدولة اليهودية أن تتنفس.”
هذه ليست استثناءات أو مواقف شاذة، بل كانت، كما أشار المسيري، محل إجماع صهيوني بين اليمين واليسار، بين سوكولوف وبوروخوف، مما يعزز فهمنا للحرب ليس كتكتيك، بل كإستراتيجية وجود.
علّمونا في الصغر: “من عرف لغة قومٍ أمن شرهم”، لكن كل ما فعلناه هو تعلّم اللغة كما تُعلَّم في المدارس، لا كما تُفهم في العقول.
قرأنا الصحف الإسرائيلية، حفظنا أسماء السياسيين، راقبنا انتخاباتهم وتحولاتهم الحزبية، لكننا لم نقترب أبداً من فهمهم ككُليّة بشرية وثقافية.
بات بعضنا يقول — بثقة ساخرة أحياناً — أننا نفهم الإسرائيليين أكثر مما يفهمون أنفسهم، لكن ذلك لا يتجاوز عادة مستوى المراقبة من بعيد، أو جمع التفاصيل السّياسية والأمنيّة.
المعرفة الحقيقية لا تعني فقط الإحاطة بالمعلومات، بل فهم ما يُحرّك الآخر من الداخل.
ولو كنا نمتلك هذا الفهم فعلاّ، ربّما كنا تعاملنا مع ما جرى في السابع من تشرين — وما بعده — بطريقة مختلفة تماماً.
تكمن مشكلتنا الكبرى في غرور معرفي دفين، وفي كبرياءٍ محصّنة بمكانة متخيّلة بين الأمم من حولنا.
نحن لا نبحث عن “فهم الآخر” كما هو، بل نُصرّ على رؤيته كما نحبّ أن يكون: هشّاً، متردداً، متناقضاً، وسهل الاختراق.
ولهذا، أخطأنا — وربما ما زلنا نُخطئ — في قراءة ما حدث في السابع من تشرين، لأننا تعاملنا مع ما حدث كرد فعل لحظي، لا كبنية عميقة انفجرت بعد زمن طويل من التكوين.
ولم نتعلّم شيئاً، بل رفضنا حتى فكرة أن نتعلّم.
لو توقفنا لحظة أمام التاريخ، لا لننتزع بطولات زائفة، أو نُراكم الهزائم على خصومنا، بل لنسأل: كيف وصلنا إلى هنا؟
لربما كنا أدركنا أننا لا نزال نقرأ التاريخ بنفس الرجفة، لا بالعقل.
بحسب الرواية التوراتية للتاريخ اليهودي، فسنجدها مليئة بصراعات داخلية دامية، لا مجرد خلافات سياسية أو دينية.
في هذه الروايات، نادراً ما ينتقل الحكم بسلاسة، بل كثيراً ما يُسفك الدم من أجل العرش، وتُراق الأرواح في سياق لا يرحم.
نبي الله داود عليه السلام، الذي يجلّه المسلمون كنبي ملك، يُصوَّر في بعض نصوص العهد القديم على أنه استلم الحكم بعد مقتل شاول، ثم دخلت أسرته نفسها في دوامة من القتل: ابنه أمنون قُتل على يد أخيه أبشالوم، وأبشالوم نفسه قُتل لاحقًا بعد تمرد مسلح على أبيه
أمّا ابنه سليمان عليه السلام، فقد اعتلى العرش — بحسب ما ترويه التوراة — في سياقٍ معقد من الصراع داخل القصر.
شقيقه الأكبر أدونيا كان قد أعلن نفسه ملكاً قبيل وفاة داود، مدعومًا من بعض رجال الدولة والكهنة، في محاولة لوراثة العرش.
لكن والدته بتشبع، بالتنسيق مع النبي ناثان، سارعت إلى تنبيه داود وإقناعه بتثبيت سليمان كوريث شرعي.
وبعد تتويجه، أمر سليمان بإعدام أدونيا، وخصوم سياسيين آخرين، في خطوات مبكرة لتثبيت سلطته وضمان استقرار حكمه.
بعد وفاة سليمان، انقسمت المملكة: رحبعام ابنه تولّى حكم الجنوب (يهوذا)، بينما قاد يربعام تمرداً في الشمال، وأسس مملكة إسرائيل.
ومنذ ذلك الانقسام، دخلت المملكتان في مسار مليء بالانقلابات والاغتيالات، لا سيّما في مملكة الشمال حيث تعاقب أكثر من ١٩ ملكاً خلال أقل من قرنين، قُتل معظمهم على يد من خلفهم أو خلال تمرّدات عسكرية.
أبرز هؤلاء الملوك : زمري الذي قتل الملك إيلا، واغتصب العرش، لكنه لم يصمد سوى سبعة أيام قبل أن يُحرق نفسه.
أما آخاب، فيُذكر في التوراة كمثال على الملك الظالم الذي انحدر إلى عبادة الأصنام، بمشاركة زوجته إيزابيل، وكانت نهايته قتلاً في الحرب ونهايتها نهشاً للكلاب.
في الجنوب، بدت مملكة يهوذا أكثر تماسكاً، لكنها لم تسلم من مؤامرات القصر وتبدّل التحالفات بين الكهنة والملوك.
ومع تصاعد الضعف، جاءت النهاية: آشور دمّرت إسرائيل الشمالية، ونبوخذ نصر البابلي دكّ مملكة يهوذا، وسبى قادتها ودمر الهيكل في عام ٥٨٦ ق.م.
بعد السّبي، عادت نخبة يهوديّة من بابل بإذن فارسي في عهد كورش، لكن الانقسامات استمرت، خصوصاً تحت الحكم السلوقي اليوناني، حيث تدهورت العلاقة بين الكهنة والطبقة السياسية.
وجاءت ثورة المكابيين (الحشمونيين) كرد فعل على الهيمنة اليونانية وعلى فساد النخبة الدينية أيضاً، فأسسوا دولة يهودية مستقلة نحو عام ١٤٠ ق.م.
لكن هذه الدولة، بدورها، غرقت في صراعات الحكم بين الأبناء والأشقاء، حتى تدخّلت روما، ونصّبت هيرودس الكبير ملكاً تابعاً لها.
هيرودس، ،الذي تقول بعض الروايات إنه  قتل زوجته وأبناءه خشية على العرش، ورّث حكماً مقسماً ومضطرباً بين أبنائه.
في تلك الأجواء المشحونة، وُلِد يسوع المسيح عليه السلام، وبدأت الدعوة الروحيّة التي اصطدمت بالنخب الدينية والسياسية معاً.
تبع ذلك تمرّدات ضد الرومان، انتهت بتدمير الهيكل الثاني عام ٧٠ م، ثم الطرد النهائي لليهود من القدس بعد سحق ثورة بار كوكبا عام ١٣٥ م.
وهكذا، تشي الرواية التوراتية بدورة  متكررة: صعود بالدم، وانهيار بالصراع الداخلي، قبل أن يتدخل الخارج، في كثير من الأحيان،  ليجهز على ما تبقى.
رغم أن الصهيونية كثيراً ما ارتكزت على رموز توراتية وشعارات دينية، إلا أن بنيتها الفلسفية الحقيقية لا تُفهم من داخل الدين، بل من خارجه.
لقد بنت الصهيونية الحديثة ذاتها على دعائم نيتشوية تُمجّد الإرادة والقوة والتفوق، وداروينية اجتماعية تُقصي الضعفاء وتبرّر الإقصاء العرقي، في إطار استعماري إحلالي غربي الهوى.
ولهذا، فإنّ المشروع الصهيوني، في جوهره، ليس امتداداً لليهودية كدين، بل انحراف عنها، في صورة قومية مسلّحة بالعلمانية العنصرية.
وإذا ما قرأنا مسار إسرائيل خلال العقود الثمانية الماضية، فيمكن أن نرى أنها بلغت ذروة سطوتها، بما يمكن أن يكون مقدمة لانهيار قادم.
إذ أنّ هذا العلو المفرط، الذي نراه في سطوة القوة والسيطرة، هو أيضاً باب السقوط.
فالانهيار لا يبدأ عندما يكون العدو أمامك، بل عندما لا يعود لك عدوّ ظاهر، وتضطر أن تواجه نفسك.
وطالما بقيت إسرائيل مشغولة بصراع خارجي، فهي محصّنة من التفسّخ.  أما إذا انتهت المعارك الخارجيّة، فستبدأ المعركة الأخطر: الداخل مع الداخل.
لو وُجد بيننا اليوم مفكرٌ حقيقي، حكيمٌ يقرأ الواقع بلا عواطف أو شعارات، لأدرك أن لحظة العلوّ الإسرائيلي ليست وقتاً للانفعال، بل فرصة للفهم والعمل.
نحن أمّة فقدت القدرة على التفكير، وليس فقط على الفعل؛ أمّة سُلِبت منها أدوات الوعي، قبل أن تُسلب منها الأرض.
وما شهدناه خلال العامين الأخيرين يؤكد هذه الفجوة:  كلما توحّد الإسرائيليون ازدادوا قوة وتأثيراً في ميزان القوة العالمي.
العالم لا يحترم الضعفاء، ولا يقف إلى جانب “الحق” حين يتعارض مع “النفوذ”.
وإسرائيل اليوم تفهم ذلك جيداً، كما فهمته من قبلها الولايات المتحدة، التي خرجت من رماد هيروشيما وناغازاكي لا كضحية، بل كقوّة عظمى.
إنها معادلة العصر:  السطوة تولّد الشرعية، والبطش يؤسس للنفوذ، والعالم يذعن لمن يفرض نفسه بالقوة، لا بالقيم.
أما نحن، فما زلنا نقف على حافة المعنى، بين خنوع وخوف وصمت، ونظن أن رفع الصوت سيغيّر موازين السلاح.
لكن “لعنة العقد الثامن” —المنسوبة لابن خلدون إن كانت حقيقية — لن تتحقق من تلقاء ذاتها.
لا النبوءات وحدها تُسقط الدول، ولا الدعوات العابرة تُغيّر موازين القوة.
الانهيارات الكبرى تحتاج إلى فهم دقيق، وعمل طويل، وشروط تاريخية ناضجة.
إسرائيل لن تبدأ بالتّخلّي عن مشروعها الإحلالي ما دامت منخرطة في حروب تمنحها شرعية الاستنفار والتماسك.
فنهاية هذا المشروع بلا حروب تحميها من مواجهة ذاتها.
نحن لم نهزم هذا المشروع بعد، لا لأننا لا نملك القوة فقط، بل لأننا لم نُتقن الفهم. إذ أنّ معرفة تفاصيل الخصم لا تكفي إن لم نرَ ما تحت السطح: العقل، العقد، التاريخ، والهواجس الوجودية.
وفي ذات الوقت، وكرديف لإتقاننا للفهم، علينا التغلب على عجزنا عن رؤية أنفسنا، عن صياغة مشروع تحرّر واضح، عن كسر وهم القوة عبر إنتاج معرفة، بين ما يمكن من مقاومة… أو حتى مساومة.
إن قبول الهدنة اليوم، حتى لو بدت انتحارية في شروطها، قد لا يكون نهاية للمقاومة، بل بداية لمرحلة تفكّك المشروع إسرائيل الإحلالي من الداخل. وذلك لأنّ الحرب في شكلها الحالي، لم تعد فقط معركة على الأرض، بل آلية بقاء سياسي، ونظام مصلحة، وتوازن رعب داخلي.
يجب التفكير في بقاء ما يمكن بقاؤه من حياة غزة، وقد يكون هناك أمل إذا ما استطعنا انتاج قيادة وطنية عازمة على تحمّل المسؤولية وقادرة على ذلك.
كاتبة فلسطينية