د. جمال الحمصي: هوية الاقتصاد الإسلامي: نحو إطار معرفي مبتكر

د. جمال الحمصي: هوية الاقتصاد الإسلامي: نحو إطار معرفي مبتكر

د. جمال الحمصي

اطلعت مؤخراً على مقالة نقدية وتشخيصية كتبها الباحثان عبد الرزاق بلعباس وفضل البشير تحت عنوان “الاقتصاد الإسلامي على مفترق طرق؟ دعوة للحوار” )2013)، وقد حفزتني هذه المقالة التشخيصية على النظر وابداء الرأي باختصار في كيفية إخراج علم الاقتصاد الإسلامي المعاصر من عنق الزجاجة من خلال استعراض المقالة أعلاه. علماً بأن الكاتبان أعلاه هما من معهد الاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز في جدّة
هذا ويشكل الاقتصاد الإسلامي -كعلم اجتماعي وكتنظيم اقتصادي ومالي- من بواكير الاهتمامات البحثية لهذا الكاتب منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. لكن لم تتح لي فرصة التأليف المستقل في هذا العلم لأسباب عدة منها: التحول نحو علوم أشمل متعددة التخصصات مثل فقه السنن والعمران، وثانياً بسبب توفر التشجيع البحثي في العالم العربي!.

خلاصة لآراء اقتصاديين مخضرمين
استعرضت المقالة في بدايتها آراء خبراء مخضرمين في الموضوع وهم: محمد نجاة الله صديقي، ومحمد عمر شابرا، ومحمد أنس مصطفى الزرقا، ومنذر قحف، ورفيق المصري، وعبد الرحمن يسري أحمد، والذين اشتركوا جميعاً في موقف عام: عدم الرضى بخصوص الإنجازات العملية وحالة الغموض في الأسس المنهجية والمقاصدية لعلم الاقتصاد الإسلامي.
ثم طرَحَت المقالة أعلاه تساؤلاً مركزياً مفاده: هل هنالك أزمة معرفيّة في علم الاقتصاد الإسلامي بعد سبعين عاماً من البحث المتخصص؟ وما هو نطاقها؟ أهي في الجانب النظري (العلاقات الاقتصادية) أم في الجانب العملي (التنفيذ والحوكمة) أم الاثنان؟ دونما الإشارة فيما إذا كانت هنالك أزمة شاملة حالياً في العلوم الاجتماعية المعاصرة ككل، بما فيها علم الاقتصاد الغربي؟
المقالة طرحت بعدها العديد من الأسئلة التفصيلية حول أسباب الأزمة المعرفية المحتملة ومظاهرها وموضعها، بما فيها هدف علم الاقتصاد الإسلامي ومعايير التحقق من “صحة” نظرياته ونماذجه، دون ان تطرح إجابات لها ضمن المقالة، تاركة “الحلول والمعالجات لهذه الأزمة إن وجدت إلى مرحلة لاحقة” (ص 137).
هذا ولم تؤكد المقالة صراحة وجود “أزمة” في علم الاقتصاد الإسلامي، لكن من الواضح من حجم الأسئلة المطروحة وجود فجوة معرفية كبيرة لم يستطع المنجز البحثي (الكبير) ردمها.

هل هنالك علم اقتصاد فريد وعالمي؟
بداية، لابد من التأكيد بأنه لا يوجد علم فريد للاقتصاد )كما في علم الفيزياء مثلاً)، أي لا يوجد علم عالمي عابر للبلدان والأزمان للاختيارات الاقتصادية للمجتمعات والحكومات ورجال الأعمال والأفراد في ظل ندرة الموارد المحدودة. بل هنالك مقاربات وعلوم متباينة لكيفية إدارة “ثروة الأمم”. وهذا النهج التعددي في علم الاقتصاد ليس هو رأيي الشخصي، بل هو الحكمة السائدة حالياً في عصر ما بعد الحداثة.
فرغم وجود مشترك اقتصادي انساني، فإن هنالك عدة علوم وصفية ومعيارية متباينة للاقتصاد تنطبق على سياقات وتاريخ وثقافات ونظم قيم ورؤى كونية مختلفة، ومعتمدة على معايير (غايات ومقاصد) عدة واوزان ترجيحية متباينة مثل الكفاءة والعدالة والرفاهية والمبادئ والاستدامة.
ولا أستطيع هنا أن افصّل في الإجابات الشافية فهذا يحتاج الى كتاب مستقل، لكن هذا لا يمنع من الإشارة الى المحاور التالية بخصوص هويّة علم الاقتصاد الإسلامي.

لمحات حول تفرّد علم الاقتصاد الإسلامي وهويّته المميزة
ولكيلا يستقرّ علم الاقتصاد الإسلامي عند علم يعتمد المفاهيم والنماذج الغربية مع وضع “طلاء إسلامي عليها” (قطب، 1998)، أرى ان يتم تأصيل هذا العلم في المحاور المركزية التالية:

اعتماد منهجية هجينة لكن على مرحلتين مستقلتين: نهج معياري وتوجيهي صريح دون تجاهل المكوّن التطبيقي (العلاقات السببية)، مع ضرورة الفصل بين مرحلتي التحليل المعياري الأساسي والتحليل السببي الميكانيكي.

فهدف علم الاقتصاد الإسلامي ليس فقط الإحاطة الدقيقة والشاملة والمتكاملة بالتوجهات المعيارية اليقينية (هامش 1) للنظام الاقتصادي الإسلامي في مجالات الإنتاج وتخصيص الموارد، والاستهلاك، والتبادل، والهبة، والتنمية، والتوزيع، بل أيضاً في تحديد أفضل الخيارات والسبل والسياسات والمؤسسات التنفيذية لتطبيق هذه التوجهات ضمن سياق عربي إسلامي محدد (منظور سببي وضعي).
مثال ذلك: كيف ننجز بفاعلية التنمية الاقتصادية المستقلة في المجتمعات العربية المعاصرة بالارتكاز الى أصول الاقتصاد الإسلامي؟ وما هي المتطلبات الحرجة لنجاحها بما فيها رأس المال الاجتماعي والأخلاقي؟ وكيف نحقق الاحتياجات الأساسية لأفقر الناس (مسلمون وغير مسلمين) دون التأثير سلباً بالكفاءة الاقتصادية؟  كيف ننفذ خيارات التمويل بالمشاركة بدلاً من التمويل بالفائدة (والمرابحة التقليدية)؟ كيف ننفذ توجيهات قيمة الوقف وفق تعريف محدد؟ وكيف نحقق قيمة المنافسة ومنع الاحتكار والغش؟ وكيف ننجز تشريع الزكاة وأولوياتها التشريعية بأفضل النتائج ودون تداعيات سلبية ملموسة وغير متوخّاة (أو غير متوقعة)؟  كيف نحقق القوة والمنعة والتنافسية الاقتصادية؟ (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وغيرها.

اكتشاف فقه السنن القرآنية، واعتماده كمصدر أساسي ومكمل في الإحاطة بالقوانين الوصفية الكبرى الحاكمة للازدهار والاستقرار الاقتصادي. وهنا لا أتحدث عن المحور المعياري أو التوجيهي، بل عن المحور الوصفي أو الوضعي Positive الذي يستقصي العلاقات السببية الكبرى في مجال تنمية النظم الاقتصادية واستقرارها واستدامتها. ومثال ذلك قانون البركة (الحمصي، 2022) (هامش2).

الخلاصة
وبهذين المحورين، يتحقق تفرّد علم الاقتصاد الإسلامي عن علم الاقتصاد الغربي المعتَمِد على رؤية علمانية للعالَم المادي (مثال: أصل الموارد الطبيعية وغائيتها)، والمرتَكِز خصوصاً على الجانب الوصفي والسببي (المتأثر بالسياق الغربي) مع عجز معرفيّ مزمن في الجانب المعياري أو الأخلاقي، تاركاً هذا الجانب الهام الى “العملية السياسية”، أي الى مخرجات العملية الديمقراطية إن وجدت أو الى القرارات النخبوية/ الشعبوية المتحيزة.
هوامش:
 هامش (1): أي التوجهات المفصّلة والمبيّنة وليس فقط المقاصد والغايات العليا المُجملة كتحقيق مقاصد الشرع الخمسة والعدل وحماية الحقوق الاقتصادية للفئات الهشة.
هامش (2): أنظر: محاضرة: الثروات الفريدة للأمم: نحو نموذج معرفي جديد للاقتصاد الإسلامي. الجمعية الأردنية لإعجاز القرآن والسنة (2022).