نجاح محمد علي: التعاون الاقتصادي بين إيران والعراق كوسيلة لتحقيق التنمية المستدامة والحد من التأثيرات الخارجية ومواجهة التطبيع.

نجاح محمد علي
بالرغم من التوترات السياسية والتحديات الاقتصادية التي تواجه البلدين، يبرز التعاون بين إيران والعراق كنموذج ملهم لتحقيق التنمية المستدامة والاستقرار الإقليمي، ما يمهد لتقليص النفوذ الخارجي، خصوصًا التواجد العسكري الأجنبي.
يرتبط البلدان بروابط تأريخية وثقافية عميقة، تجعل هذه الشراكة تتعدى الاتفاقيات التجارية لتصبح جسرًا لبناء مستقبل مشترك يعزز التعايش السلمي ويُعممه على دول المنطقة.
في عام 2024، بلغ حجم التجارة البينية أكثر من 12 مليار دولار، وفقًا لغرفة التجارة الإيرانية، مما يعكس إمكانات هائلة لتعميق التعاون. يسهم هذا التعاون في تقليص النفوذ الخارجي غير المرغوب، بما في ذلك محاولات توسيع التطبيع مع الكيان الصهيوني، من خلال تقوية الجبهة الإقليمية، ويدعم القضية الفلسطينية عبر تعزيز التضامن الاقتصادي والسياسي.
الإطار الاقتصادي: مشاريع مشتركة للتنمية
يشكل التعاون الاقتصادي بين إيران والعراق ركيزة أساسية لتحقيق التنمية في المنطقة. من أبرز المشاريع المشتركة خطوط أنابيب الغاز الإيراني التي تمد العراق بالطاقة، حيث تصدر إيران حوالي 30% من احتياجات العراق من الغاز الطبيعي، وفقًا لوكالة أنباء “فارس” (2024). هذا التعاون، الذي يواجه ضغوطًا أمريكية غير مبررة لوقفه، يساعد العراق على تلبية الطلب المحلي على الكهرباء، بينما يعزز مكانة إيران كمورد طاقة موثوق. كما يبرز مشروع السكك الحديدية بين البصرة وشلمجة، الذي يواجه ضغوطًا مماثلة، كمثال رائد لتعزيز البنية التحتية، حيث يهدف إلى ربط الأسواق الإيرانية والعراقية، وتسهيل حركة البضائع والأفراد، خصوصًا أثناء الزيارات الدينية، مما يخلق آلاف فرص العمل.
إلى جانب ذلك، يستورد العراق سلعًا إيرانية بقيمة تزيد عن 5 مليارات دولار سنويًا، تشمل المواد الغذائية، المنتجات الصناعية، والأدوية، مما يدعم الأمن الغذائي والصحي في العراق، ويعزز الصادرات الإيرانية. هذه المشاريع تفتح آفاقًا للاستثمار في إيران، خاصة في قطاعات الطاقة المتجددة، التكنولوجيا، والزراعة. على سبيل المثال، تستثمر شركات إيرانية في إنشاء مصانع للألواح الشمسية في العراق، مما يعزز التنمية المستدامة ويقلل من الانبعاثات الكربونية. يعكس هذا التعاون التزام البلدين بتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، مع تعزيز الاستقلال الاقتصادي الإقليمي بعيدًا عن التبعية للقوى الخارجية.
الاستقرار كبديل للتدخلات الخارجية
يمتد التعاون الإيراني-العراقي إلى تعزيز الاستقرار السياسي في المنطقة. من خلال تقوية الروابط الاقتصادية والتجارية، يقلل البلدان من فرص التدخلات الخارجية التي تسعى إلى فرض أجندات غير إقليمية. على سبيل المثال، يسهم التعاون الإقليمي القوي في تقليص جاذبية التطبيع مع الكيان الصهيوني، حيث يعزز الروابط العربية-الإيرانية، مما يجعل مثل هذه المحاولات أقل تأثيرًا.
وفقًا لتقرير ترانسبارنسي إنترناشونال (2024)، خُصصت مئات الملايين من الدولارات لحملات التطبيع، لكن التعاون الإقليمي يشكل درعًا طبيعيًا ضد هذه الجهود.
كما يعكس هذا التعاون التزامًا مشتركًا بدعم القضية الفلسطينية. إيران، التي أكدت دائمًا موقفها الداعم لفلسطين، تجد في العراق شريكًا يشاركها هذا الموقف. فقد أدانت الحكومة العراقية مرارًا انتهاكات الكيان الصهيوني ومجازره الوحشية وجرائم الإبادة الجماعية في غزة ، بما في ذلك اعتقال أكثر من 10 آلاف فلسطيني، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة (2024). يمثل التعاون الإيراني-العراقي نموذجًا للتضامن الإقليمي، حيث يوجه الموارد الاقتصادية والسياسية لدعم القضايا العادلة، بدلاً من الانخراط في مشاريع تخدم أجندات خارجية.
التضامن عبر الثقافة
إلى جانب الأبعاد الاقتصادية والسياسية، يعكس التعاون بين إيران والعراق وجهًا حضاريًا يعزز التعايش السلمي. يستضيف البلدان فعاليات ثقافية مشتركة، مثل المهرجانات الفنية والمعارض التراثية، التي تجمع بين الشعبين وتبرز الروابط التاريخية. وفقًا لوكالة “إرنا” (2024)، شهد عام 2024 تنظيم مهرجان ثقافي إيراني-عراقي في بغداد، جذب آلاف الزوار وعزز التبادل الثقافي. هذه المبادرات تكرس التزام إيران ببناء جسور التواصل مع جيرانها، بعيدًا عن الانقسامات أو الصراعات. كما تسهم التعاونات الأكاديمية، مثل تبادل الطلاب والبحوث العلمية، في تعزيز التفاهم المتبادل.
على سبيل المثال، تستضيف جامعات إيرانية طلابًا عراقيين في برامج العلوم والتكنولوجيا، مما يعزز نقل المعرفة ويرسخ صورة إيران كمركز حضاري وثقافي. هذا الوجه الحضاري يجهض محاولات الإعلام المعادي لتشكيل رأي عام عربي سلبي تجاه إيران.
زيارة الأربعين: بعد اقتصادي وإنساني
تُعد زيارة الأربعين، التي تجذب ملايين الزوار سنويًا، خاصة من إيران، واحدة من أكبر التجمعات الدينية في العالم، وتمثل ركيزة أساسية لتعزيز التعاون الإيراني-العراقي. في عام 2024، شارك أكثر من 4 ملايين زائر إيراني في الزيارة، وفقًا لتقارير وكالة “إرنا”، مما أسهم في تنشيط الاقتصاد العراقي عبر تسيير آلاف الرحلات الجوية والبرية، وتوفير فرص عمل موسمية في قطاعات النقل، الإقامة، والخدمات. تشير التقديرات إلى أن الزيارة تحقق إيرادات سنوية تتجاوز 2 مليار دولار للاقتصاد العراقي، مما يعزز القطاعات الخدمية ويدعم صغار التجار والشركات المحلية.
إلى جانب البعد الاقتصادي، تعزز زيارة الأربعين الروابط الثقافية والإنسانية بين الشعبين. تجمع الزيارة ملايين الأفراد من خلفيات متنوعة في إطار من التضامن والتكافل، حيث يقدم العراقيون الطعام والمأوى للزوار، في مشهد إنساني نادر يعكس قيم التعايش السلمي. هذه الروابط تسهم في تقوية العلاقات الثنائية، حيث يرى الإيرانيون والعراقيون أنفسهم شركاء في رحلة روحية مشتركة نحو التنمية والاستقرار.
ضرورة استثمار الزيارات الدينية للتنمية المستدامة: تمثل الزيارة فرصة ذهبية لتطوير مشاريع تنموية مستدامة. يمكن استثمار إيراداتها في تحسين البنية التحتية في المدن المقدسة، مثل بناء طرق جديدة أو مستشفيات حديثة، مما يعود بالنفع على الزوار والسكان المحليين. كما يمكن تطوير مشاريع سياحية دينية، مثل الفنادق الصديقة للبيئة أو مراكز ثقافية، لجذب المزيد من الزوار على مدار العام. إيران، بفضل خبرتها في إدارة السياحة الدينية، يمكنها أن تلعب دورًا رائدًا في تمويل وتنفيذ هذه المشاريع بالتعاون مع العراق، مما يرسخ التعاون الإقليمي كبديل للتدخلات الخارجية.
العقوبات الأمريكية وقانون تحرير العراق: التحديات وسبل التغلب
لكن ، وكما هو معروف، فالتعاون الإيراني-العراقي ليس محفوفاً بالزهور إذ تشكل العقوبات الأمريكية على إيران عقبة رئيسية أمامه. منذ إعادة فرض العقوبات المشروعة في 2018 بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي (JCPOA)، تأثرت التجارة بين إيران والعراق، خصوصًا في قطاعي الطاقة والغذاء. وأدت العقوبات إلى تقليص صادرات إيران من الغاز والكهرباء إلى العراق، مما تسبب في ارتفاع أسعار الطاقة ونقص في الامدادات.
في مارس 2025، ألغت الولايات المتحدة إعفاءً كان يسمح للعراق باستيراد الكهرباء من إيران، مما هدد بفقدان أكثر من 30% من الطاقة العراقية، وفقًا لتصريحات مسؤولي وزارة الكهرباء العراقية. هذه الخطوة، التي تندرج ضمن سياسة “الضغط الأقصى”، تهدف إلى الحد مما يسمى النفوذ الإيراني، لكنها تضر بالاقتصاد العراقي وتعيق التنمية المشتركة.
علاوة على ذلك، ظهرت مناقشات في الكونغرس الأمريكي حول قانون تحرير العراق من النفوذ الإيراني، الذي قُدم كمقترح من قبل أعضاء جمهوريين مثل جو ويلسون وجيمي بانيتا في 2025. يهدف المقترح إلى تقليص “النفوذ” الإيراني من خلال فرض عقوبات على الجهات الصديقة لإيران، وتفكيك فصائل المقاومة التي تعمل بشكل مستقل عن إيران ، ووقف الدعم الأمريكي للحكومة العراقية ما لم تُظهر التزامًا بتقليص هذا النفوذ المزعوم .
وفقًا لتقارير إعلامية أمريكية ، يُنظر إلى هذا المقترح كمحاولة لتصنيف فصائل عراقية كمنظمات إرهابية، مما قد يعقد العلاقات الإيرانية-العراقية ويزيد التوترات السياسية. ومع ذلك، لم يُصدر الكونغرس هذا القانون بعد، ويبقى في مرحلة الاقتراح، مما يعكس انقسامًا حول جدواه.
سبل التغلب على التحديات:
تنويع مصادر الطاقة: يمكن للعراق تسريع الاستثمار في الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية ومزارع الرياح، بالتعاون مع إيران ودول أخرى، لتقليل الاعتماد على الغاز الإيراني، مما يخفف من تأثير العقوبات.
تطوير آليات تجارية بديلة: يمكن لإيران والعراق استخدام العملات المحلية أو المقايضة في التجارة، كما فعلت إيران مع دول أخرى، للالتفاف على قيود النظام المصرفي الدولي.
تعزيز التعاون الإقليمي: يمكن للبلدين التعاون مع دول مثل روسيا والصين ضمن إطار منظمات مثل منظمة شنغهاي للتعاون لتطوير أنظمة اقتصادية مستقلة عن العقوبات الأمريكية.
الاستثمار في البنية التحتية المشتركة: استكمال مشاريع مثل السكك الحديدية بين البصرة وشلمجة، مع ضمان تمويل إقليمي، لتعزيز الاستقلال الاقتصادي.
الدبلوماسية الإقليمية: يمكن لإيران والعراق الضغط من خلال حلفاء إقليميين لتخفيف العقوبات، مع التركيز على الأثر الإنساني لها على الشعب العراقي.
هذه الاستراتيجيات يمكن أن تدعم التعاون الاقتصادي وتقلل من تأثير العقوبات، مع تعزيز التضامن الإقليمي والدفاع عن القضية الفلسطينية من خلال توجيه الموارد للقضايا الإنسانية.
نحو مستقبل إقليمي مزدهر
يمثل التعاون الاقتصادي بين إيران والعراق نموذجًا رائدًا لتحويل التحديات الإقليمية إلى فرص للتنمية والاستقرار. من خلال مشاريع مشتركة في الطاقة، البنية التحتية، والسياحة الدينية، يعزز البلدان استقلاليتهما الاقتصادية ويقلصان من النفوذ الخارجي غير المرغوب. وتبرز زيارة الأربعين، بأبعادها الاقتصادية والإنسانية، كمثال حي على قوة التعاون في تعزيز الروابط بين الشعبين.
وعلى الرغم من العقوبات الأمريكية ومقترحات مثل قانون تحرير العراق، يمكن للبلدين التغلب على هذه التحديات من خلال استراتيجيات اقتصادية ودبلوماسية مبتكرة. هذا التعاون يجب أن لايبقى مجرد اتفاقيات تجارية، بل يتحول استراتيجية شاملة تدعم القضية الفلسطينية، و تعزز التعايش السلمي، وتؤسس لمستقبل إقليمي قائم على التضامن.
وفي هذا المقام، يمكن للدول العربية الأخرى إلى استلهام هذا النموذج والانضمام إلى إيران والعراق في بناء منطقة مزدهرة، بعيدًا عن محاولات التطبيع التي تخدم أجندات خارجية. فالطريق إلى الاستقرار يمر عبر التعاون الإقليمي، وإيران والعراق يقودان هذا المسار بثقة وتفاؤل.
صحافي مهتم بالشأن الايراني