د. أميرة فؤاد النحال: الإغاثة الخفيّة: الجانب المظلم لمعسكرات الاعتقال

د. أميرة فؤاد النحال
في ظلال الحرب الممتدة على غزة، وبين ركام البيوت والأنقاض، تسير شاحنات الإغاثة بهدوء نحو رفح، محمّلة بما يبدو أنه طحين وأرز، لكنها في حقيقتها تحمل ما هو أخطر بكثير: مخطط لإعادة تشكيل الخريطة السكانية، تحت لافتة العمل الإنساني، إنّ ما يجري اليوم ليس مجرد مساعدات، بل هو “إغاثة مقنّعة” تُدار بعناية لتقود الفلسطينيين من الجوع إلى التجمع، ومن الفقد إلى “القبول القسري” بالواقع المفروض، مراكز التوزيع ليست نقاط نجاة، بل بوابات نحو “معسكرات اعتقال إنسانية، تُصمم لتجمع وتفرز وتحتوي، دون أن تُطلق رصاصة واحدة.
في الحروب الحديثة، لم تعد السيطرة تُفرض بالدبابات فقط، بل بكيس طحين، هنا في غزة، وفي لحظة فارقة من عمر المعركة، يتحول الطعام من حق إنساني إلى وسيلة تحكّم، ومن ضرورة للعيش إلى أداة لإعادة توزيع البشر على رقعة الأرض كما تُعاد قطع الشطرنج إلى أماكن محددة.
ما يجري في رفح اليوم هو نموذج صارخ لما يمكن تسميته بـ “الاحتواء الإنساني”، حيث تُستخدم الإغاثة كقناة للضغط لا تقل خطورة عن القصف، والمؤسسات الدولية التي ترفع شعار الحياد، لا تتحرك بعفوية، بل في كثير من الأحيان تتحول إلى مشغّلات ميدانية لخطط مرسومة بدقة، تحاول دفع السكان خطوة بخطوة إلى حيث يريد المخطط لا حيث يريد الجائع.
حين يُجبر السكان على التوجه إلى مراكز توزيع تقع فقط في جنوب رفح، مع غياب أي مراكز مماثلة في خانيونس أو النصيرات أو غزة، فإننا لسنا أمام حالة إنسانية، بل أمام خريطة تُعاد صياغتها تحت ضغط الجوع، وهذه المراكز لا تُغيث فقط، بل تُوجه، وتفرز، وتحتوي، نعم.. إنها معسكرات ما قبل المعسكر، حيث البداية طحين والنهاية تطويق.
التحكم في الطعام ليس عارضاً، بل هو عنصر مركزي في هذا النوع الجديد من الحروب، حيث يُستبدل الطوق العسكري بطوق الإغاثة، ويُمارس الحصار بطريقة تبدو إنسانية لكنها في جوهرها أداة طرد ناعم، تدفع الناس لأن يختاروا بأرجلهم ما لا يريدونه أصلاً، فقط لأنهم يريدون أن يعيشوا، إنها خطة خبيثة، تُقدَّم على أنها مساعدة، لكنها في الحقيقة خريطة تهجير مغلفة بكرتونة معونة.
عند النظر إلى خريطة مراكز التوزيع التي أنشأها الجيش الصهيوني بإشراف مؤسسة أمريكية، قد يبدو للوهلة الأولى أننا أمام إجراء إنساني بحت، ولكن الحقيقة تتكشف حين نتمعن في التفاصيل: أربعة مراكز فقط، جميعها تقع جنوب رفح، في منطقة واحدة بعينها، ويُسمح للعائلة بالوصول إليها مرة واحدة في الأسبوع، هذه ليست مجرد نقاط إغاثة، بل مفاتيح فرز سكاني، تُبنى لتؤدي وظيفة مزدوجة: إطعام الجائع، واحتواءه في ذات اللحظة.
هذه المراكز تعمل وفق منطق “المعسكر الإغاثي، حيث لا تُفرض الأسوار من حديد، بل من إجراءات وشروط تجعل الوصول إليها ممكناً فقط لمن قرر مغادرة منطقته الأصلية، فالوصول من خانيونس أو البريج أو غزة إلى رفح، رحلة شاقة ومليئة بالمخاطر في ظل الحرب، ومع ذلك يُجبر المحتاج على خوضها، لأن الخيار الآخر هو الجوع، وهكذا.. تتحول مراكز التوزيع إلى “”نقاط جذب جغرافي قسري، لا يختارها الناس برغبتهم، بل يُدفعون إليها دفعاً، ليجدوا أنفسهم يوماً بعد يوم وقد استقروا في بقعة واحدة، خاضعين لنظام مراقبة وتحكم، يُشبه في بنيته معسكرات الاعتقال، وإن خلا من السلاح الظاهر أو القيود المعدنية.
المعسكر هنا لا يحتاج إلى حراسة، يكفيه الطحين ليؤدي وظيفته، فكل كيس طحين يُسلم وفق شروط، وكل شرط يُرسم ليضمن البقاء داخل المنطقة الإنسانية، إنها عملية إغلاق ناعم، تبدأ بإطعام وتنتهي باحتواء طويل الأمد.
إنّ ما يجري في رفح ليس مجرد توزيع مساعدات، بل عملية “هندسة إغاثية” مدروسة، تُستخدم فيها المسارات الغذائية لتوجيه حركة السكان نحو منطقة واحدة بعينها: رفح، في حين تُحرم باقي المناطق من الإغاثة، وتُحصر المساعدات في الجنوب، فإن الناس لا يذهبون طوعاً، بل يُدفعون دفعاً بالجوع نحو البقعة المختارة، ومع مرور الوقت، تتحول رفح من نقطة عبور إلى “كانتون مغلق”، تُحشد فيه الكثافة السكانية تحت غطاء إنساني، هذه الظاهرة التي يمكن تسميتها بـ “الرفحنة”، وهي تعني تحويل رفح إلى مخيم تجميع دائم، يُعاد تعريفه كحل نهائي مؤقت، تمهيداً لفصلها جغرافياً وسياسياً عن باقي قطاع غزة، والنتيجة: مخيم ضخم بحراسة الطعام، لا بحراسة الجنود.
يأتي السؤال المهم هنا.. التنازل غير المعلن: هل يستخدم الخروج كوثيقة؟
في ظل المعاناة اليومية والحصار الخانق، لا يُلام من يخرج بحثاً عن كيس طحين أو علبة زيت، لكن ما لا يقال —وهو الأخطر— أن هذا الخروج قد يُسجَّل لاحقاً كـ “تنازل غير معلن” عن الأرض والبيت والمكان، وفي المعارك المعاصرة لا تحتاج القوى الكبرى إلى توقيع رسمي لتُعيد ترسيم الجغرافيا، يكفي أن يتحرك الناس بأقدامهم نحو المنطقة الإنسانية حتى يُقال لاحقاً: لقد خرجوا طوعاً.
هنا يظهر المفهوم الأخطر: “الخروج القهري الاختياري”، فالناس لا يُجبرون علناً، لكن يُدفعون بالجوع، ويُتركون بلا خيار حقيقي، وفي النهاية.. تسجل الكاميرات هذا الخروج على أنه قرار فردي، لا كاستجابة لمنظومة تجويع وتطويق، ويصبح الخبز وثيقة سياسية، والصمت حوله قبولاً ضمنياً بمخطط لا يُقال بصوت عالٍ، لكن تنفذه البطون الخاوية، إن أخطر ما في هذه اللحظة هو أن تتحول الحاجة إلى حُجة، وأن يُستخدم الألم كدليل ضد الضحية.
وهنا يأتي الوعي المقاوم: كيف نفشل معسكرات الاعتقال قبل اكتمالها؟
في هذه الحرب الملتوية، لم تعد الخديعة تأتي بالدبابة، بل بالكرتونة، والمخيم الجديد لا تُحيط به الأسلاك، بل يُرسم داخل العقول، حين يظن الناس أن الخروج إلى المساعدات هو خلاص لا خيار فيه، وهنا تماماً تبدأ المعركة الأخطر: معركة الوعي، فكل كيس طحين مشروط هو خطوة نحو بوابة الخداع، وكل مشوار أسبوعي إلى رفح هو لبنة جديدة في بناء معسكر اعتقال ناعم، لا يحتاج إلى قيد ظاهر، بل إلى رضى خافت مكسور بالجوع.
الوعي المقاوم اليوم ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية، ولا بد أن نعي أن ما يبدو إنسانياً قد يُخفي ما هو أبعد من ذلك بكثير، وأن التشبث بالأرض رغم الألم، هو المعركة الحقيقية، وحده الوعي هو القادر على إسقاط هذا النموذج الجديد من السيطرة، الذي لا يُطلق رصاصة، لكنه يُفرغ المدن من ناسها، خطوة خطوة، بحجة الإغاثة.
في الختام هنا.. ما بين الخبز والقيد، وبين الطحين والمخيم، يُكتب هذا الفصل من الحرب على غزة بلغة جديدة: لغة التجميع الإنساني، والتطويق الغذائي، والتهجير غير المعلن، لكن كما فشلت الجدران والأسوار من قبل، ستفشل هذه الخطة ما دام في هذا الشعب وعي لا يُساوم، وصبر لا يُشترى، وتمسّك بالأرض لا يُباع في طابور الإغاثة، إنّ النصر يبدأ من لحظة الإدراك، حين نكشف القناع عن “الإغاثة المقنّعة”، ونعلن أن رفح ليست النهاية، بل البداية من جديد، وكما قال الإمام البَطَّال- رحمه الله -: “إنّما النصر صبر ساعة”؛ وهذه الساعة نحن أهلها بعون الله.
كاتبة فلسطينية في الشأن السياسي