الأستاذ خالد الضيف شبلي: “إدانة الاحتلال الفرنسي: من قصة الذاكرة إلى قوة النصوص القانونية”

الأستاذ خالد الضيف شبلي: “إدانة الاحتلال الفرنسي: من قصة الذاكرة إلى قوة النصوص القانونية”

ا. خالد الضيف شبلي

“العدالة لا تسقط بالتقادم، لكنها أيضًا لا تتحقق بالشعارات. والذاكرة ليست مادة خطابية، بل قاعدة سيادية يُبنى عليها التفاوض، والتشريع، والانتماء الوطني.” أ. شبلي خالد
تمهيد : بين النص والذاكرة
منذ الإعلان عن تأسيس لجنة برلمانية خاصة بصياغة مقترح قانون يهدف إلى تجريم الاحتلال الفرنسي للجزائر، عادت قضايا الذاكرة الوطنية لتحتل واجهة النقاشات السياسية والقانونية والثقافية في البلاد، هذه المبادرة ليست مجرد رد فعل آني، بل تمثّل لحظة فارقة في مسار الوعي السياسي للدولة الجزائرية، إذ تسعى لأول مرة إلى تحويل الذاكرة الجماعية إلى نص قانوني مُلزم، يندرج ضمن منظومة التشريعات ذات البعد السيادي.
الاحتلال الفرنسي للجزائر لم يكن مجرد حدث عابر، بل تجربة تاريخية دامية دامت 132 سنة، خلّفت آثارًا عميقة في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للبلاد، وقد ظلّت هذه الذاكرة حيّة في وجدان الجزائريين، وإن تم تجاهلها أو التعتيم عليها رسميًا في مراحل معينة، إما تحت ضغط المصالح السياسية أو بداعي تغليب “العلاقات الثنائية” على “العدالة التاريخية”.
تأتي هذه المبادرة في سياق عالمي متصاعد يُولي اهتمامًا متزايدًا لقضايا العدالة الانتقالية ومحاسبة الجرائم التاريخية، من المطالب المتكررة بالاعتراف بجرائم الاستعمار البريطاني في الهند وكينيا، إلى دعوات تعويض المتضررين من تجارة العبيد في أمريكا وأوروبا، بدأت الذاكرة تُوظف كأداة قانونية لتحصيل حقوق جماعية لطالما تم التنكر لها.
في هذا السياق، يبرز النموذج الجزائري كمثال حي على كيفية تحويل التاريخ من مجال للجدل العاطفي إلى موضوع للمرافعة القانونية، يُستخدم فيه القانون للتعبير عن سيادة الأمة، واستعادة سرديتها الخاصة، ورفض أي سردية استعمارية مضادة.
أولًا: في البعد القانوني : حدود النص وإمكاناته
يُظهر عمل اللجنة البرلمانية أن المشروع لا يهدف إلى مساءلة الاحتلال الفرنسي ما بين 1830 و1962 فحسب، بل يسعى إلى تأصيل رؤية قانونية متكاملة، ترتكز على مفاهيم مثل “الجريمة ضد الإنسانية”، و”عدم التقادم”، و”المسؤولية الدولية”.
هذا الطرح ينسجم مع روح القانون الجنائي الدولي، وإن كان يصطدم بتحديات تتعلق بعدم وجود نص دولي صريح يُجرّم الاحتلال الاستيطاني بأثر رجعي، لذلك يتجه المقترح إلى إدراج جرائم الاستعمار ضمن فئات مُعترف بها دوليًا، مثل جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، مستفيدًا من اجتهادات قانونية سابقة، كتلك التي طبّقتها محاكم نورمبرغ، المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، والمحكمة الخاصة بيوغوسلافيا السابقة.
السوابق الدولية تُظهر أن غياب نص صريح لم يكن عائقًا أمام مبدأ محاسبة الأنظمة التي مارست قمعًا ممنهجًا أو إبادة جماعية، طالما أن الأفعال المرتكبة تُعد خرقًا جسيما لأبسط قواعد العدالة والكرامة الإنسانية، هذا ما يُعرف في القانون الدولي بمبدأ “الأعراف الدولية الملزمة” Jus Cogens، الذي يسمح بتجريم أفعال، حتى وإن لم تكن موضحة في نص قانوني عند وقوعها، طالما كانت تُعتبر آنذاك لا أخلاقية أو مجرّمة ضمناً.
كما يستند المقترح إلى الشرعية الدستورية، حيث تنص ديباجة الدستور الجزائري على أن الدولة تستمد مقوماتها من ثورة نوفمبر المجيدة، وتلتزم بحماية الذاكرة الوطنية، وهذا يمنحه بعدًا قانونيًا داخليًا قويًا، يؤهله ليكون جزءًا من السياسات العمومية، لا مجرد مبادرة رمزية عابرة.
ومع أن القانون المقترح قد لا يفضي إلى ملاحقات جنائية دولية فورية، إلا أن صدوره يمثل سابقة تشريعية حاسمة في إفريقيا والعالم العربي، ويمنح الجزائر موقعًا متقدمًا في حقل العدالة التاريخية.
ثانيًا: في البعد السيادي : قانون الذاكرة أم ذاكرة القانون؟
رغم طابعه القانوني، إلا أن جوهر المقترح سياسي وسيادي بامتياز، فالمبادرة تهدف إلى إعلان موقف رسمي وحاسم من الدولة الجزائرية تجاه الحقبة الاحتلالية، وتأكيد أن جرائم الاحتلال لا يمكن طيّها دون اعتراف صريح وموثق من الطرف الفرنسي.
يعاكس هذا المسار التوجه الفرنسي الساعي إلى إغلاق ملف الاستدمار  بـ”صفح تاريخي” لا يُحمّل باريس أية مسؤولية قانونية، وقد تجسّد هذا التوجه الفرنسي في قانون 23 فيفري 2005 الذي اعتبر أن “الاحتلال” الذي يسميه “استعمارا”، كان له “دور إيجابي في المستعمرات”، وهو نص يُمثّل إهانة للذاكرة الوطنية الجزائرية، ويتجاهل قرونًا من النهب والقتل والتهجير القسري والتفجيرات النووية.
إن رد الجزائر على هذا القانون لا يمكن أن يكون خطابًا إعلاميًا أو تصريحًا دبلوماسيًا فقط، بل يجب أن يكون ردًا تشريعيًا مماثلاً، يُجسّد سيادة الذاكرة في نص قانوني واضح، يُجرّم الاحتلال وممارساته، ويُدين محاولات تبييض التاريخ.
كما أن هذا القانون يفتح المجال أمام إعادة صياغة العلاقات الثنائية على أساس الاعتراف التاريخي، لا فقط المصالح الاقتصادية أو التنسيق الأمني، وهذا يُعيد للجزائر قدرتها على التفاوض من موقع الندية، لا من موقع الدولة التي تطلب الاعتراف فحسب، بل تُمارس سيادتها القانونية بكل أدواتها.
ثالثًا: في البعد الرمزي والتربوي : الذاكرة كمؤسسة لا كخطاب
لا يُراد لمقترح القانون أن يقتصر على المعاقبة أو الإدانة، بل يتضمن بعدًا رمزيًا وتربويًا جوهريًا، فالقانون، كما تُظهر التجارب الدولية، يمكن أن يكون أداةً لإعادة بناء الذاكرة الجماعية، وترسيخ وعي تاريخي موحد، يقوم على رؤية وطنية للحقبة الاحتلالية.
ونظرا لما سبق بيانه، نصت المداولات الأولية على ضرورة إدماج الذاكرة الاستعمارية ضمن المناهج التعليمية الوطنية، ابتداء من المرحلة الابتدائية، وصولًا إلى الجامعات، وفي السياق ذاته، نثمن تخصيص مؤسسات متحفية وتوثيقية تُخلّد شهداء الاستعمار وضحاياه، وتُعيد تقديم الرواية الوطنية للتاريخ.
ومن جهة أخرى؛ يُفترض أن يُواكب هذا المسار إنتاج ثقافي وفني وإعلامي نوعي، يتجاوز التناول المناسباتي لملف الذاكرة، ويُنتج محتوى مرئي ومكتوب يعكس تجربة الاحتلال من منظور الضحية، لا المُحتل، وهذا يتطلب دعمًا رسميًا مباشرًا، وتشجيعًا للباحثين والفنانين والسينمائيين على الخوض في هذا المسار بأدوات مهنية عصرية.
وإلى جانب المؤسسات، يُفترض أن يُساهم هذا القانون في تكوين رأي عام وطني ناضج قانونيًا وتاريخيًا، يرفض الخطاب الاستعماري ويُدرك أن العدالة لا تسقط بالتقادم، وأن استرجاع الكرامة لا يكون إلا عبر مواجهة التاريخ بكل تجلياته.
رابعًا : الأسس القانونية لتجريم الاحتلال: من محاكمات نورمبرغ إلى الرؤية الوطنية
يمثل مشروع تجريم الاحتلال الفرنسي للجزائر خطوة قانونية وسياسية جريئة، تستدعي العودة إلى أبرز السوابق القانونية الدولية التي أسست لمفاهيم العدالة التاريخية، وفي مقدمتها محاكم نورمبرغ التي عقبت الحرب العالمية الثانية، فقد وجدت البشرية نفسها حينها أمام فظائع غير مسبوقة ارتكبها النظام النازي، في ظل غياب نصوص قانونية دولية صريحة تجرّم تلك الأفعال في وقت ارتكابها، ومع ذلك، لم يكن غياب النص مانعًا أمام المحاسبة، بل شكّل دافعًا لتطوير بنية قانونية جديدة اعتمدت على ما يُعرف بالنظرية الموضوعية في القانون الدولي الجنائي.
تقوم هذه النظرية على مبدأ بسيط لكنه عميق، مفاده بأن : هناك أفعال، بسبب طبيعتها الوحشية والمنهجية، تُعد جرائم بطبيعتها (mala in se)، بغض النظر عن وجود نص قانوني يُجرّمها وقت وقوعها، فالجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، وجرائم العدوان، ليست بحاجة إلى تقنين مسبق لأنها تُمثّل انتهاكًا فجًّا لما يُعرف في القانون الدولي بـالقواعد الآمرة  (Jus Cogens)، وهي قواعد لا يجوز خرقها أو التحلل منها بأي تبرير، بما فيها السيادة الوطنية أو إتباع الأوامر.
وقد أسست محاكم نورمبرغ هذا المفهوم عمليًا، حيث أكدت أن الجناة لا يمكنهم الاحتماء بـ”مبدأ الشرعية الصارمة” للإفلات من العقاب، لأنهم انتهكوا ضمير الإنسانية جمعاء، فالمادة السادسة من ميثاق المحكمة شددت على أن تلك الجرائم تقع ضمن اختصاص المحكمة، رغم عدم وجود اتفاقيات ملزمة تنصّ على ذلك بشكل سابق، فهذا تحول جذري في فلسفة القانون الدولي فتح الباب أمام “العدالة الكونية”، التي تُحاكم الأفعال لا بناءً على زمنها القانوني فقط، بل وفقًا لقيمها الأخلاقية وطبيعتها الجرمية الجوهرية.
هذا الأساس القانوني يجد اليوم صداه في التجربة الجزائرية، حيث تسعى الدولة إلى توصيف الاحتلال الفرنسي من 1830 إلى 1962 ليس فقط كواقعة تاريخية مؤلمة، بل كمنظومة ممنهجة من الجرائم ضد الإنسانية، فقد مارست فرنسا خلال استعمارها أبشع صور الانتهاك : من التطهير العرقي، إلى التفجيرات النووية، إلى التهجير القسري(النفي إلى كاليدوينا الجديدة..إلخ)، ومصادرة الأراضي، وقمع الهُوية، وسنّ قوانين عنصرية تفصل بين السكان الأصليين والمستوطنين.
وعلى هذا الأساس، يصبح من الممكن (بل من الضروري) إعادة توصيف الاحتلال الفرنسي كجريمة دولية متكاملة الأركان، رغم عدم وجود نصوص قانونية تحظر الاحتلال الاستيطاني بشكل صريح في القرن التاسع عشر، فمثل هذا التوصيف لا يستند فقط إلى وقائع دامغة وأدلة موثّقة، بل أيضًا إلى مقاربات قانونية دولية معترف بها، تم تطبيقها في محاكمات مثل نورمبرغ ويوغوسلافيا ورواندا، وهذا يفسح المجال لتوظيف المبادئ القانونية العليا التي لا تسقط بالتقادم، في ملاحقة الجرائم التي تمثل خرقًا فاضحًا لكرامة الإنسان ومبادئ العدالة.
وفي السياق ذاته، لا يمكن تجاهل الرؤية الوطنية العميقة التي عبّر عنها كثير من رموز الحركة الوطنية والثورة الجزائرية، والتي تلاقت بشكل لافت مع هذه الأسس القانونية، ومن أبرز هؤلاء المجاهد والسياسي الأستاذ عبد الحميد مهري، الذي أكد في أكثر من مناسبة أن الاحتلال الاستطاني لا يحتاج إلى نص لتجريمه، لأنه في جوهره فعل عدواني ممنهج ترتكبه دولة ضد أخرى، تسلب فيها السيادة، وتُخضع فيها الشعوب بالقوة، وتنهب فيها الثروات، وتُحاول فيها طمس الهُوية.
فبالنسبة لمهري، الاحتلال ليس فقط واقعًا سياسيًا أو تاريخيًا مؤلمًا، بل جريمة قائمة بذاتها، متجذّرة في بنيتها، لا تحتاج إلى توصيف قانوني لتُدرَك بوصفها عملاً إجراميًا شاملاً،  وهو ما يتقاطع مع جوهر النظرية الموضوعية التي تُقرّ بأن بشاعة الجريمة يمكن أن تُشكّل مصدرًا مستقلًا للتجريم، حتى في غياب تقنين صريح.
إن الجمع بين هذه الرؤية الوطنية والنظرية القانونية الدولية يُضفي على مشروع تجريم الاحتلال الفرنسي قوة مزدوجة:  فهو من جهة يستند إلى السوابق القانونية العالمية التي أرست مبدأ عدم الإفلات من العقاب، ومن جهة أخرى يعبر عن الوجدان الجماعي للشعب الجزائري، الذي لم يتوقف منذ الاستقلال عن المطالبة بالاعتراف بالجرائم الاستدمار ية ومساءلة مرتكبيها.
وعليه، فإن مقترح القانون لا يسعى إلى اختراع نص من عدم، بل إلى ترجمة قيم راسخة ومبادئ قانونية دولية معترف بها، وإسقاطها على تجربة استعمارية تُعد من بين الأطول والأكثر وحشية في التاريخ الحديث، وهو ما يجعل من هذا المقترح ليس فقط أداة للتشريع، بل بيانًا قانونيًا وسياديًا وأخلاقيًا، يعيد الاعتبار للضحايا، ويؤسس لذاكرة قانونية جامعة، تُكرّس الحق في الحقيقة، وتُجسّد العدالة الكونية بمرجعية وطنية راسخة.
إذن من الناحية القانونية، يقف مشروع القانون على أرضية صلبة من المبادئ والسابقة القضائية الدولية:
1-      محاكم نورمبرغ:
جاءت هذه المحاكم لتؤسس لأول مرة لفكرة أن هناك أفعالًا تُعد “جرائم ضد الإنسانية” حتى إن لم تكن مجرّمة في القانون وقت ارتكابها، المادة السادسة من ميثاق المحكمة نصّت صراحة على أن:
“الجرائم التي تُرتكب في نطاق خطة أو سياسة ضد المدنيين، بما فيها القتل والرق، والنفي، والأعمال غير الإنسانية الأخرى، تعد من الجرائم ضد الإنسانية.”
ورغم طعن الدفاع آنذاك في “الشرعية بأثر رجعي”، فإن المحكمة اعتمدت ما يُعرف بـالنظرية الموضوعية في القانون الجنائي الدولي، أي أن بعض الأفعال تعتبر “محرّمة بطبيعتها” (mala in se)، وتستوجب العقاب بصرف النظر عن وجود نص.
2-      التجربة اليوغوسلافية والرواندية:
اعتمدت هذه المحاكم على مبدأ “النية العامة للاضطهاد”، واعتبرت أن وجود سياسة قمع جماعية، حتى دون أوامر مكتوبة، يُعد جريمة ضد الإنسانية، ويمكن إسقاط هذا المبدأ على السياسات الفرنسية في الجزائر (سياسة الأرض المحروقة، المحتشدات، النفي ، التجنيد القسري، التفجيرات النووية، قانون الأهالي، قانون الحالة المدنية…إلخ).
3- محكمة العدل الدولية:
في رأيها الاستشاري حول الجدار العازل (2004)، قالت إن:
“الاحتلال الاستيطاني الذي يهدف إلى التغيير الديمغرافي ونهب الموارد يُعد خرقًا لحق الشعوب في تقرير المصير.”
بالتالي، يُمكن توصيف الاحتلال الفرنسي كفعل ممنهج، يُصنّف ضمن الجرائم الدولية الكبرى من زاوية الفقه والقضاء الدوليين، ولو لم يرد حينها نص دولي واضح يحرّمه.
خامسًا: المرجعية المقارنة وتجارب الشعوب الأخرى
إن مسعى الجزائر ليس فريدًا في العالم، بل يُمثّل حلقة ضمن سلسلة من محاولات الشعوب لاستعادة كرامتها القانونية عبر القانون:

جنوب إفريقيا: استخدمت العدالة الانتقالية لإدانة جرائم التمييز العنصري، دون أن تكتفي بالمصالحة الرمزية.

كوريا والصين:  ما زالتا تطالبان اليابان باعتراف رسمي بجرائم الاحتلال في ثلاثينيات القرن الماضي، رغم مضي أكثر من 80 سنة.

ألمانيا:  لا تزال تدفع تعويضات لليهود والبولنديين حتى اليوم، رغم مرور قرن على بعض الأحداث، تأسيسًا على أن الجرائم ضد الإنسانية لا تُغلق إلا بالاعتراف والتعويض.

سادسًا: المرجعية الفقهية الإسلامية وتجريم العدوان
إلى جانب المرجعيات القانونية الدولية والدستورية، يكتسب مشروع تجريم الاحتلال الفرنسي للجزائر شرعية أخلاقية وحقوقية أيضًا من المرجعية الفقهية الإسلامية، فالشريعة الإسلامية، في أصولها ومقاصدها، تُجرّم العدوان والاحتلال، وتعتبر الغزو والسيطرة بالقوة من أكبر مظاهر الفساد في الأرض.
وقد نصّ القرآن الكريم صراحةً على تجريم العدوان، حيث جاء في قوله تعالى:
“وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” البقرة: الآية 190.
كما أقرّ الإسلام في فقه المعاملات والسياسة الشرعية حرمة سلب الأرض، واعتبر أن الغاصب يجب أن يُردع، ويُلزم برد الحقوق إلى أهلها، دون تقادم، وأكد العلماء، مثل ابن القيم وابن تيمية، أن “الحق لا يسقط بتقادم الزمان، ولا بموت الغاصب، ولا بانتقال الملك إلى غيره”، مما يتقاطع بوضوح مع مبدأ “عدم التقادم” الذي تبناه القانون الدولي الحديث.
ومن الفقه السياسي الإسلامي نجد أن الاحتلال يُعد صورة من صور الاستعباد الجماعي، الذي حرّمه الإسلام، سواء باسم “الفتوحات” أو تحت مسميات “التوسّع السياسي”، بل إن فقه “الجهاد الدفاعي” في الشريعة يجعل مقاومة الاحتلال واجبًا دينيًا وسياسيًا، ويُلزم الأمة بالمطالبة بالحقوق ورفع المظالم.
وهكذا، فإن تجريم الاحتلال الفرنسي لا يتعارض مع القيم الدينية للشعب الجزائري، بل ينسجم معها، ويجد في الفقه الإسلامي ما يعزز مشروعيته القانونية والأخلاقية.
خاتمة: بين العدالة والسيادة والمصلحة الوطنية
إن مقترح قانون تجريم الاحتلال الفرنسي للجزائر لا يجب أن يُفهم كأداة انتقامية، بل كآلية لإحقاق العدالة الرمزية والسياسية والقانونية، فالعدالة لا تعني فقط العقاب، بل تعني أيضًا الاعتراف، التصحيح، وإعادة الاعتبار للضحايا.
لكن التحدي يكمن في تحقيق التوازن بين المتطلبات القانونية الصارمة، والمصالح السياسية والدبلوماسية للجزائر في عالم متشابك، فالقانون يجب أن يكون أداة سيادية، ولكن دون أن يتحول إلى قيد على حركة الدولة الخارجية، أو مصدر توتر دائم غير محسوب.
ويبقى السؤال الكبير: هل يستطيع هذا القانون أن يقول ما عجز التاريخ عن فرضه؟ هل يُمكن أن يُحوّل الذاكرة إلى مؤسسة تُخاطب المستقبل لا فقط الماضي؟ الإجابة مرهونة بمدى جدية الدولة في مرافقة هذا النص بإرادة سياسية، وتعبئة مجتمعية، ورؤية استراتيجية.
الأيام القادمة، مع صدور تقرير اللجنة البرلمانية وصياغة النص النهائي، ستكون كفيلة بكشف المسار الذي ستتخذه الجزائر: هل ستكتب التاريخ بالقانون؟ أم ستظل حبيسة سرديات لم تندمل بعد؟
توصيات  لابد منها : نحو ذاكرة قانونية ذات سيادة

مرافقة إعلامية موسّعة ومدروسة لتسليط الضوء على أبعاد المقترح، والتصدي لمحاولات التشويه أو التهوين من قيمته، خصوصًا من قبل التيارات اليمينية الفرنسية.

التحرك في المحافل الدولية (الأمم المتحدة، الاتحاد الإفريقي، محكمة العدل الدولية) لتدويل ملف جرائم الاحتلال، والربط بينه وبين قضايا مماثلة تطالب بالعدالة التاريخية.

الإسراع في الصياغة النهائية للنص وتقديمه إلى البرلمان ضمن أجندة واضحة، مع ضمان دعم سياسي واسع من مختلف مؤسسات الدولة.

سن قانون مضاد لقانون 23 فيفري الفرنسي، يُجرّم تمجيد الاحتلال ويدين محاولات فرض سردية استعمارية على الجزائر.

ترسيخ الذاكرة الوطنية في التعليم والثقافة، من خلال إدراجها في المناهج، وتخصيص ميزانيات للإنتاج الثقافي الهادف، وتكوين أجيال تملك وعيًا قانونيًا وتاريخيًا يعصمها من محاولات التزييف.

باحث في القانون العام

عضو مخبر القانون والعمران والبيئة

كلية الحقوق. جامعة باجي مختار عنابة

الايميل: [email protected]