زيد عيسى العتوم: خوفٌ وتقوى!

زيد عيسى العتوم: خوفٌ وتقوى!

زيد عيسى العتوم

عند ناصية الشارع المحاذي لبيتي وقفتُ أعاتبُ الوقتَ بصمتٍ وبنوعٍ من الحزن, أعرف أنني المخطىء لكنّ جَلدَ ذاتي لن يفيدني إن تأخرتُ عن امتحان الوظيفة التي انتظرتها بفارغ الصبر, نسيتُ ستائر نافذتي مسدلةً فمنعتُ أشعة الشمس من التسلل لساعاتٍ مأسوف على شبابها, وأغفلتُ إماطة اللثام عن هاتفي المكمم فثقبتُ خزّان دقائقي التي أصبحت مهدورة, وغرقتُ في نومي وحلّقتُ مع أحلامي حتى استسلمتُ لأضغاثها الخادعة, والآن ليس أمامي غير الانبطاح قرب مقولة ” أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبدا”.
أشرتُ بيدي الى إحدى سيارات “التاكسي” التي لبّت النداء بوشم الأرض بخطين أسودين بسبب سرعة توقفها وصلابة كوابحها, التفتَ السائق نحوي بغضبٍ يحثّني على المجيء فظننته سيزاحمني لنيل تلك الوظيفة إن بقيَت, حييته وطلبتُ منه إيصالي الى مقصدي عبر أقصر الطرق المتاحة, كان الرجل في عقده الرابع لكنّ ثيابه تكبره بعقودٍ كثيرة, عيونه جاحظة وشعره مجعّد وذقنه ممزّق كأرخبيلٍ من الجزر المبعثرة, يقوم بحكّ بضعٍ من الشعرات البيضاء المعوجّة الناتئة من فتحة قميصه المترهل تحت رقبته, وأحياناً يمازح أسفل أنفه بتمرير سبابته بشدّةٍ من فوق شاربه الكثيف, قام بتنزيل زجاج نافذته بخشونةٍ ثم نظر اليّ نظرة متفحصة يغشاها الفضول.
السائق: يبدو لي أنك في عجلةٍ من أمرك وأنا كذلك أيضا, بعد أن أوصلك سأذهب لشراء الطماطم والبطاطا والباذنجان والليمون والخبز ثم أرسلهم الي بيتي قبل العودة الى العمل, أنا أكره العمل وأكره مهنتي وأكره هذا الزحام الرهيب الذي أعيشه في كلّ يوم, وفي نهاية المطاف لا أستطيع سوى توفير الحد الأدنى من حاجاتي الأساسية.
ابتسمتُ له دون أن ينبس لساني ببنت شفة, بعدها أمسكَ بقطعةٍ من القماش المهترىء التي قد عُجنت بالغبار الأسود والرطوبة الخفيفة بعد أن سقطت بالقرب من قدميه, فألقاها من نافذته دون النظر الى مَن حوله.
السائق: قد يلومني الكثيرون لأنني ألقي ما يحلو لي الى الشارع, لكن الشارع ليس نظيفاً من الأصل, وهو متسخ بسبب عدم تنظيفه بشكل جيد من قِبل عمّال النظافة, ثم تخيّل كم سأضيّع من الوقت إن بقيتُ أتوقف للبحث عن أماكن طرح القمامة, سيكون ذلك مضحكاً برأيي إن فعلته.
ابتسمتُ له مرة أخرى, وهززت وقلّبتُ يدي اليمنى كأنني لا أعرف شيئاً ولا أفهم ما يقوله, توقفت السيارة عندما انتصر اللون الأحمر على غريمه الأصفر برمشة عين, وبدأت فتاةٌ تحمل بيدها حقيبة سوداء وبالأخرى مجموعة من الكتب تقوم بقطع الطريق أمامنا ببطء.
السائق: انظر اليها إنها في ريعان شبابها, كم هي جميلة وكم عيونها واسعة وشعرها لامع, تعجبني مشيتها وطريقة لباسها وابتسامتها الساحرة وشالها المخطط, سأمازحها بالاقتراب منها قليلاً بسيارتي عندما تعبر من أمامي, سأخيفها وسأراقب ردة فعلها نحوي, يبدو أن ذلك قد أثار غضبها وأنها لا تحب الفكاهة, فلتذهب هي ونظرتها الحادة الى الجحيم.
أخذَ ينهمكُ بالبحث عن أغنيةٍ تروق له من مذياع سيارته الموشّح بالعفن والعرق المتلبّد, حتى وجد ضالته بكلماتٍ هزيلةٍ ولحنٍ مكسّرٍ وتكرارٍ ليس فيه غير الضوضاء والملل واللغو الهابط, قام برفع صوت المذياع عالياً الى حده الأكبر, وبدأ بهزّ رأسه طرباً بينما أصابعه تتبادل مهمة الضرب على محيط مقود سيارته كما لو دخل في حالةٍ شعوريةٍ من النشوة أو الثمالة, وما أن تبدّى اللون الأخضر حتى أطلق العنان لبوق السيارة من أجل إرغام من أمامة على التحرّك بسرعة.
السائق: هؤلاء الحمقى يحتاجون لمن يوقظهم, وينزعجون عندما ننتشلهم من غفوتهم, لا أعرف لماذا ينتظرون هذه الثواني الحقيرة قبل التحرّك, ينشغلون بهواتفهم وأحاديثهم وربما بأحلامهم وذكرياتهم التافهة, إن معظمهم برأيي من أصحاب السيارات الفارهة الذين اعتادوا التنعّم ولا يهمهم الفقراء مثلي, إن الدقيقة تعني لي المزيد من النقود.
قامَ بإخراج سيجارة من جيبه ثم استبدل تثبيت المقود بتحريك عود ثقابه لإشعالها وقطف طلائع شهقاتها, ليلفظها بعد قليل على شكل سحابةٍ طويلةٍ وخانقةٍ من الدخان التي دفعها الهواء نحوي بلا استئذان, بدأتُ أصارع انعدام الرؤية وصعوبة التنفّس بالتلويح براحة يدي أمام وجهي بلا توقف, ثم أسرعتُ بفتح نافذتي طمعاً بعددٍ من رشقاتِ الهواء النظيف وأنا في عجلةٍ من أمري, كل ذلك ولا يزال ضجيج المذياع يملأ الدنيا من حولي طبلاً وزمراً.
السائق: يقولون إن السجائر مضرّة للصحة وتجعلنا نقترب من الموت, أنا لا أعتقد ذلك على الإطلاق, لقد عاش جدّي مائة وعشرة أعوام رغم أنه قد كان مدخناً شرهاً, ثم إن السيجارة تجلب لي السعادة وراحة البال وتحمي مزاجي من هموم الدنيا وصعابها, ويوجد معي دائماً ما يكفيني لأربعة أيام على الأقل, إنني أخزّن ما أحتاجه هنا.
وما أن قام بمدّ يده الى جيب سيارته الموجودة أمامي مباشرة حتى انحرفت السيارة بضعة أمتار نحو السيارة المجاورة لنا, فاستشاظ صاحبها غضباً وهو يكرر زجر بوق سيارته بصوته الفظ والغليظ, شعرتُ بالرهبة مما جرى وما قد يجري.
السائق: ماذا تريد أيها الأعمى, لماذا تفعل ذلك أيها الغبي, لماذا لم تبتعد عني عندما اقتربتُ منك, لولا انشغالي لدفعتُ سيارتك خارج الطريق, هيا اذهب أيها الأحمق أو سأهشّم وجهك.
بعد دقيقتين من الصمت المطبق مررنا من أمام أحد المساجد وقد بدأ صوت الأذان يتصاعد في المكان, فأسرع السائق بإخراس المذياع الهادر على حين غرّة.
السائق: لا الله الا الله, الله أكبر الله أكبر, لقد اقتربنا من المكان الذي تريده كثيراً, سأعود  فوراً للصلاة في هذا المسجد….