خالد دراوشة: الفجوة الاستراتيجية في الذكاء الاصطناعي والطاقة النووية بين الصين وأمريكا: تحليل جيواقتصادي

خالد دراوشه
مقدمة
في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، تبرز الصين والولايات المتحدة كأكبر قوتين تتنافسان على الريادة في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة. وفي ظل هذه المنافسة، تتكشف فجوات هيكلية واستراتيجية بين القوتين، لاسيما في البنية التحتية والتكنولوجيا النووية، والتي باتت تلعب دورًا محوريًا في تمكين تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتوفير الطاقة اللازمة لتشغيل الخوارزميات الضخمة ومراكز البيانات العملاقة. هذه الورقة تسعى إلى تقديم تحليل موسّع لهذه الفجوة، من خلال ربط التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة بالحراك المتسارع الذي تقوده الصين.
أولاً: الذكاء الاصطناعي كأداة هيمنة جيواقتصادية
أصبح الذكاء الاصطناعي أحد أعمدة القوة الوطنية الشاملة. فالتفوق في هذا المجال لا يقتصر على تطبيقات تقنية، بل يتعداه إلى النفوذ العسكري، والسيطرة على الأسواق، وإعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية. الصين تدرك هذه المعادلة جيدًا، ولذلك تعمل وفق رؤية طويلة الأمد تتجلى في خطة “صنع في الصين 2025″، التي تضع الذكاء الاصطناعي في صلب الطموح الصناعي والاقتصادي.
من جانبها، تعتمد الولايات المتحدة على شركاتها العملاقة مثل Microsoft، Google وNVIDIA، والتي تقود الابتكار في البنية التحتية السحابية والمعالجات المتقدمة. إلا أن هذه الشركات تصطدم بعقبة أساسية: الحاجة المتزايدة للطاقة.
فقد أظهرت تقارير مثل تقرير جامعة بيركلي لعام 2024 أن استهلاك مراكز البيانات للطاقة في الولايات المتحدة مرشح للزيادة بنسبة 50% خلال الأعوام الخمسة القادمة بسبب توسع استخدام الذكاء الاصطناعي (Lawrence Berkeley National Laboratory, 2024).
ثانياً: البنية التحتية للطاقة كعنق زجاجة أمام التقدم الأميركي
إن توسع الذكاء الاصطناعي مرتبط مباشرة بقدرة الدول على تأمين طاقة نظيفة، مستقرة، ومرنة. الطاقة النووية، خصوصاً من خلال المفاعلات المعيارية الصغيرة (SMRs)، تقدم حلاً مثالياً لتوفير هذه المتطلبات.
بينما تسير الصين بخطى ثابتة في هذا المجال، حيث بدأت بالفعل في تشغيل مفاعلات معيارية وربطها بشبكة الطاقة، تواجه الولايات المتحدة تحديات ضخمة. فحسب تقرير صادر عن Nuclear Innovation Alliance في 2025، تعاني واشنطن من نقص حاد في إنتاج الوقود النووي منخفض التخصيب (HALEU)، وهو الوقود اللازم لتشغيل المفاعلات الحديثة (Nuclear Innovation Alliance, 2025).
وقد كانت الولايات المتحدة تعتمد على استيراد هذا الوقود من روسيا، لكن العقوبات الجيوسياسية والحرب في أوكرانيا قطعت هذا المصدر. وتُشير وزارة الطاقة الأميركية إلى أن بناء منشآت لإنتاج HALEU محليًا قد يستغرق سنوات طويلة (U.S. Department of Energy, 2025).
هذا النقص لا يشكل فقط عقبة أمام مشاريع الطاقة، بل يمثل معضلة استراتيجية أمام مستقبل الذكاء الاصطناعي ذاته.
ثالثاً: سباق المفاعلات المعيارية الصغيرة (SMRs)
تمثل المفاعلات المعيارية الصغيرة مستقبل الطاقة النووية العالمية، حيث توفر مرونة في النشر، أمانًا عاليًا، وكلفة أقل مقارنة بالمفاعلات التقليدية. وتُظهر بيانات من GlobeNewswire (2024) أن الصين وروسيا تهيمنان على أكثر من 75% من السوق العالمي لهذا النوع من المفاعلات.
وقد أطلقت الصين نماذج تشغيلية فعلية لهذه المفاعلات، بينما لا تزال الولايات المتحدة في مرحلة التخطيط والتجريب، وتعتمد على شراكات مع شركات مثل TerraPower وX-energy التي تواجه بدورها تحديات تمويلية وتنظيمية (ITIF, 2024).
من ناحية أخرى، تسعى الحكومة الأميركية الآن إلى تسريع إصدار تصاريح تعدين اليورانيوم المحلي كما هو الحال في مشروع يوتاه، إلا أن ذلك لا يحل مشكلة التخصيب ولا يغطي حاجات السوق الداخلية على المدى القريب (Reuters, 2025).
رابعاً: دمج الذكاء الاصطناعي والطاقة النووية: نموذج Microsoft كمثال
تجربة Microsoft الأخيرة في إعادة تشغيل محطة ثري مايل آيلاند النووية لتزويد مراكز بياناتها بالطاقة اللازمة للذكاء الاصطناعي تعكس مدى ارتباط الملفين معًا (Business Insider, 2024).
وهو ما يعني أن شركات التكنولوجيا العملاقة بدأت تنظر للطاقة النووية باعتبارها جزءاً من البنية التحتية الاستراتيجية للذكاء الاصطناعي، وليس فقط كمصدر طاقة بديل.
لكن المشكلة لا تزال تكمن في هشاشة سلاسل إمداد الوقود النووي، وغياب استراتيجية تصنيع وطنية متماسكة في الولايات المتحدة.
خامساً: التفوق الصيني والاتجاه نحو الاكتفاء الذاتي
لا تعتمد الصين على الاستيراد في هذا المجال، بل تستثمر بكثافة في بناء دورة وقود نووي متكاملة، وتشغيل منشآت إنتاج HALEU محلية. وهي بذلك تمضي نحو الاكتفاء الذاتي في أحد أهم عناصر تفوقها التكنولوجي.
ويُقدّر أن الصين ستبني أكثر من 150 مفاعلًا نوويًا بحلول 2035، بميزانية تتجاوز 500 مليار دولار، لتصبح بذلك أكبر قوة نووية مدنية في العالم (Breakbulk, 2025).
سادساً: فجوة لا تُردم بسهولة
وفق التقديرات الحالية، تحتاج الولايات المتحدة إلى ما لا يقل عن 7–10 سنوات لتطوير سلاسل تصنيع محلية للوقود النووي المخصص لـSMRs، هذا إذا توفرت الإرادة السياسية والتمويل الكافي، وهو ما لا يبدو مضمونًا.
أما الصين، فهي تُصدر تقنياتها إلى الأسواق العالمية وتدخل في شراكات استراتيجية مع دول الجنوب العالمي، ما يُمكّنها من تعزيز نفوذها الجيوسياسي عبر بوابة الطاقة.
خاتمة
تتجاوز الفجوة بين الصين والولايات المتحدة حدود التكنولوجيا، لتصل إلى مستويات عميقة من التفاوت في الاستراتيجيات والبنية التحتية. الذكاء الاصطناعي لا يمكن عزله عن مسألة الطاقة، والطاقة النووية باتت شرطًا لتمكين هذه الطفرات التكنولوجية.
وبينما تُبنى الصين لمستقبل مدعوم بمفاعلات معيارية ووقود محلي، تظل واشنطن في طور رد الفعل، وتواجه سباقًا مع الزمن، في معركة تُحدد من يملك مفاتيح الثورة التكنولوجية القادمة.
قائمة المراجع
Business Insider. (2024). Microsoft plans to use nuclear power to run AI data centers. Retrieved from https://www.businessinsider.com/microsoft-nuclear-power-ai-data-centers-2024
Breakbulk. (2025). China’s Nuclear Future: 150 New Reactors by 2035. Retrieved from https://breakbulk.com/news/china-nuclear-future-150-reactors
GlobeNewswire. (2024). Small Modular Reactor Market Outlook. Retrieved from https://www.globenewswire.com/news-release/2024/01/15/smr-market-outlook
ITIF (Information Technology and Innovation Foundation). (2024). U.S. Needs to Ramp Up SMR Investment. Retrieved from https://itif.org/publications/2024/03/10/us-small-modular-reactors
Lawrence Berkeley National Laboratory. (2024). Energy Demand from AI Data Centers in the U.S.. Retrieved from https://eta.lbl.gov/publications/ai-energy-demand-berkeley
Nuclear Innovation Alliance. (2025). High-Assay Low-Enriched Uranium (HALEU) Supply Challenges. Retrieved from https://nuclearinnovationalliance.org/reports/haleu-report-2025
Reuters. (2025). U.S. struggles to find enough HALEU for next-gen nuclear. Retrieved from https://www.reuters.com/technology/us-haleu-nuclear-fuel-shortage-2025
U.S. Department of Energy. (2025). HALEU Availability and National Security. Retrieved from https://www.energy.gov/ne/articles/haleu-and-national-security