السعودية: من اتفاقيات إبراهيم إلى التوازن الإقليمي

د. ميساء المصري
لم ينسَ العرب، رغم ذاكرتهم السمكية، أشهر مقولة لدونالد ترامب عن استغلال المال، والتي أثارت جدلاً واسعًا وفُسّرت على أنها تعكس نظرته البراغماتية للمال والسلطة، حين قالها متفاخرًا وموجهة إلى دول الخليج في عام 2017 : “ليس لديهم شيء سوى المال. وأنا أحب المال. أنا جشع جدًا.”وخلف هذا “الجشع” تتكشف عقلية ترامب التجارية في التعامل مع السياسة الدولية، إذ ينظر إلى الدول من منظور الربح والخسارة. وهذه المقولة تُعد مفتاحًا لفهم فلسفة ترامب، فالعلاقات تُبنى لديه على المال، لا على القيم أو التحالفات والعلاقات التقليدية.
ومن “مفتاح ترامب” في عام 2017، نجد نفس “القفل” في عام 2025. فهل تغيّرت رؤيته أو أهدافه أو مصالحه؟ بالطبع لا. لا تزال ذاتها: البراغماتية المطلقة تجاه المال، والسلطة، والهيمنة.ترامب لم يتغير. لكن السعودية تغيّرت كثيرًا مقارنة بعام 2017، من عدة نواحٍ، لتشكّل “مفاتيح” أخرى لتحليلات أعمق حول ماهية نيتها تجاه التطبيع وعقد اتفاقيات إبراهيم مع إسرائيل والولايات المتحدة.
فقد كانت السعودية تُدار بمزيج من تقاليد المؤسسة الملكية، وهيبة المؤسسة الدينية، وتوازنات داخل الأسرة الحاكمة. أما اليوم 2025، فقد أصبحت السلطة مركّزة بشكل غير مسبوق، مع تراجع ملحوظ لأدوار الأجنحة الأخرى في العائلة المالكة.وهذا التمركز الشديد للسلطة غيّر من جوهر الدولة، وشكّل تحوّلًا جذريًا في طبيعة النظام السياسي.كما تقلص دور المؤسسة الدينية، مما أدى إلى تغيّر في هوية الدولة، من دولة إسلاموية محافظة إلى دولة ذات طابع “وطني”، بحسب توجهات القيادة. وشهدت المملكة أيضًا تحولات اجتماعية وثقافية عميقة وغير مسبوقة، لم تكن مجرد تغييرات سطحية، بل أعادت تشكيل المجال العام، ونقلت البلاد إلى “مجتمع” يخضع لإعادة هندسة ثقافية سريعة.
وتبدّل الخطاب السياسي من مرجعية دينية قائمة على مفاهيم “الأمة الإسلامية” ، إلى خطاب قومي سعودي يركّز على الهوية الوطنية، كما في شعار “السعودية أولًا”، وهو ما أعاد تشكيل الولاء الشعبي.أما اقتصاديًا، فقد انتقلت السعودية من الإعتماد الريعي إلى طموحات تنموية كبيرة، رغم التحديات، مع الحديث عن مشاريع ضخمة مثل نيوم وذا لاين ومشاريع البحر الأحمر . إذن الطموح واضح، لكن التنفيذ لا يزال متقلبًا ويتأثر بالقرارات المركزية.
نعم، يمكن القول إن السعودية بات لديها سلوك سياسي أكثر استقلالية ومجازفة، وفتحت قنوات مع الصين وروسيا، ولم تتبع الموقف الأميركي حرفيًا لا في ملف أوكرانيا ولا في ملف التطبيع مع إسرائيل.
لكن حين صرّح ترامب بأن “حلمه” أن تطبّع السعودية وتوقع اتفاقيات إبراهيم، فإن ذلك يعكس مغامرة محسوبة تعيد تموضع السعودية في النظام العالمي، اعتمادًا على دور ترامب المحوري في التأثير على هذه الديناميكيات، والمواقف المتضاربة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وقادة الخليج.
ورغم أن ترامب لوّح بأن السعودية لن تطبّع العلاقات مع إسرائيل إلا عندما تكون مستعدة، فإن حديثه عن “الجدول الزمني” كان في إطار دبلوماسي، لا أكثر.فهو، كما اعتدنا، يسعى لتحقيق مصالح اقتصادية في المقام الأول، وهذا ما ينعكس على استراتيجياته السياسية. لا يرى في التحالفات مجرد أدوات عسكرية أو دبلوماسية، بل فرصًا إقتصادية يجب استغلالها.
أما قادة الخليج، فهم يدركون هذه الذهنية التجارية، ويركّزون على مقايضات سريعة، مصالح اقتصادية مقابل تسويات ملموسة، كضمان أمنهم مقابل عوائد اقتصادية وصفقات تسلح ضخمة، وهو ما يتطلب، من وجهة نظر أمريكية ، تطبيعًا مع إسرائيل.
وإذا أردنا الربط بين الحرب في غزة، ومفاوضات حلّ الدولتين، والعلاقة مع إيران، فإن ترامب يتعامل مع الحرب من منطلقات مصالحية واقتصادية وصناعية، في حين ترغب دول الخليج بنهاية سريعة لها لتجنّب المزيد من الفوضى.وقد شددت السعودية على أنها لا يمكن أن تطبع مع إسرائيل إلا بعد تحقيق تقدّم حقيقي في مسار حلّ الدولتين، ما يضع نتنياهو في مأزق، إذ يُصرّ على استمرار الإحتلال، خلافًا لرؤية الخليج التي تعتبر إقامة دولة فلسطينية شرطًا لأي تطبيع حقيقي.
وهناك تحوّل استراتيجي آخر،وهو رغبة دول الخليج في التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران.
هذا التحوّل ينبع من تغيّر الحسابات، خاصة بعد تدمير أذرع إيران في المنطقة، والخسائر التي تكبّدتها الميليشيات التابعة لها، لا سيما في سوريا. وقد دفع ذلك ترامب إلى الحديث مجددًا عن العقوبات ضد سوريا.
بمعنى آخر، إيران كانت الغائب الحاضر في كل تفاصيل هذه الملفات.
خلاصة القول:هل يمكن أن نصدّق أن نتنياهو محبط حقًا؟ ربما. فهو لم يحصل على موافقة أمريكية لتوجيه ضربة إلى المنشآت النووية الإيرانية، ولم يُبرم اتفاقًا تجاريًا بشأن الرسوم الجمركية، وها هو يواجه مفاجأة غير سارة تمثلت في اتفاق بين ترامب والحوثيين لوقف الهجمات، جاء في توقيت حساس بعد قصف الحوثيين لمطار بن غوريون.
وهل يمكن أن نصدق أن نتنياهو يعاني من محاولة التوازن بين المصالح الأمريكية والإسرائيلية من جهة، ومصالح الخليج الباحثة عن استقرار إقليمي من جهة أخرى؟ ان إسرائيل في وضع مختلف ولن تقبل المفاوضات ولا التسويات، وهو ما يرفضه نتنياهو، الذي يرى في حرب غزة وسيلة لتثبيت الكثير من طموحه السياسي داخليًا وخارجيا .
الزيارة (وما حولها) تعكس تحولات كبيرة في السياسة الإسرائيلية والخليجية والأمريكية.وفي هذه المرحلة، التي تتقاطع فيها المصالح الإقتصادية مع الإستراتيجيات الأمنية ضمن صراع معقد الأمد .لدى نتنياهو تحديًا مزدوجًا: تحديا بشأن إيران، وتحديا خليجيًا بشأن فلسطين. بينما تواجه دول الخليج معضلة الإستثمار المالي في ظل مؤشرات ضغوط خارجية للتطبيع العلني.ويستمر الطرف الأمريكي بالتأرجح بين المكاسب والمصالح،
وليبقى العرب… في إنتظار المجهول.
كاتبة اردنية