سوريا: هل تم解除 العقوبات؟ ممتاز.. ولكن ماذا عن البلاد؟

د. لينا الطبال
“كل ما يلزم لانتصار الشر، أن الناس الطيبين لا يفعلون شيئا”… هذه المقولة “إدموند بيرك” تليق بنا كما تليق الثياب القديمة بالجثث. نحب أن نرددها لنتظاهر بالحكمة، لكننا في الحقيقة نرتدي هذه الأقوال كالثياب المستعملة على أجساد ميتة، باردة، بلا حياة.
في روايات الأمم المتحضرة، حين تنتهي الحرب، يعاد بناء المدن، وتنسج النساء اعلام السلام. في روايتنا نحن، انتهت الحرب دون أن تنتهي، وعاد الجنود من الجبهات ليقنعوا الشعب أن الزنزانة هي شكل من أشكال الوطن.
نحن من بقي، نحاول تجميل المأساة بحكم مستهلكة لا تطعم الجائعين. نحن نغرق في البلاغة، ونزين الصمت بالعقلانية، في الناحية المقابلة يتم قصف الحياة.
ها هم الطيبون… يتفرجون. يجلسون ويشعلون الاحزان كالنرجيلة. يتجادلون حول اقتصاد سوريا بعد عشرين سنة. يتحدثون عن إعادة الاعمار بعد عشر سنين، عن الاستثمارات الكبرى، عن الشركات العالمية التي ستغزو الأسواق المحلية، وناطحات السحاب الزجاجية التي سيتم تشييدها…
لا أحد منهم يملك شجاعة السؤال: كم سيبلغ ثمن ربطة الخبز غدا؟
الكل يريد ان يشارك، ان يطرح رأيه، ان يتفلسف ويحلل على أنقاض الدولة.
يريدون رفع العقوبات؟ تفضل يا سيدي. ارفعها. ولتبدأ برفعها عن الشعب أولا، عن أفران الخبز، عن بيوت المتعبين، عن قلوب الأمهات التي لم تعد تعرف عدد المرات التي مات فيها أبناؤهن.
يريدون أن ننسى، ان نمشي فوق جراحنا، كما لو ان المجازر كانت سوء تفاهم، وان البراميل كانت نكتة سمجة. لكننا لا نطلب منكم المستحيل. لا نطالب بنهاية سعيدة، كل ما نريده فقط هو ان تتركوا لنا قليلا من الوطن…
انا لست يائسة، لا تخطئوا التقدير، انا فقط اقل إيمان بخادعكم وكذبكم.
هذا مقال غاضب،
تمزيق لواقع متهالك،
تكسير لكلمات،
وتحطيم للحقيقة وفوضى لا تنتهي.
هل فكرت في يوم من الايام أن تهرب إلى كوكب آخر؟ بعيدا عن هذا الخراب، عن هذا الجنون؟ خذني معك، أرجوك… أحتاج إلى مكان لا يشبه هنا، لا أرى فيه وجوه المجرمين وهم يبتسمون ولا اسمع أصواتهم كالقذائف تدمر ما تبقى من الامل…
هذه ليست سياسة، إنها تجارة بالبشر… في الساحل، هناك سوق للنساء، سوق نخاسة تمارس فيها القسوة بلا حدود. النساء يُختطفن كل صباح. قتل وذبح يومي على الأرض، وتطهير عرقي يمارس في صمت.
هل تعرف ماذا يعني التطهير العرقي؟ هل تعلم أن الأرض، التي كان من المفروض أن تكون لنا، يتم انتزاعها من بين ايدينا لتذهب إلى “الأشرار”؟ هل ترى هذا؟ او يعمي الظلام عينيك عن الحقيقة للمرة الالف؟
واسرائيل تواصل التفرقة والفتن ونهب الأراضي وطمس الهوية. هل تستطيع أن ترى ذلك؟ هل تستطيع أن ترى هذا الغزو المستمر؟ هل ترى هذا الهدم من الداخل ومن حواليك؟
سوريا التي لم تعد سوريا، هي خريطة نرسمها ويلونها اطفالنا ثم نلصقها على الجدار… نحلم بها واعيننا مفتوحة.
قال لي احدهم وهو يحدق في السوار حول معصمه: “هذا السوار سينقطع فقط عندما أعود إلى سوريا”.
هل يعتقد حقا أنه سيعود؟
هل نعتقد نحن أننا سنعود؟ أليس هذا الوهم نصنعه لأنفسنا، أسطورة مريحة نتمسك بها في زحام القتل؟…
اي سوريا سيعود إليها؟ سوريا التي تتفكك كل يوم؟… او العودة إلى شيء انتهى منذ زمن؟
وماذا لو أصابنا الزهايمر الجماعي ونسينا؟ ماذا لو فجأة اختفى هذا الوطن من ذاكرتنا كما تختفي ضبابية الحلم عند الاستيقاظ؟
ماذا لو اصبحنا نسأل بعضنا اين كانت درعا؟ من يتذكر حلب؟ وهل كانت حمص حقا مدينة؟ نعيش هذا التوتر المزمن ونخاف أن تضيع ادق التفاصيل من رؤوسنا… نستمر في الدوران حول أنفسنا، نخشى أن تتخلى عنا ذاكرتنا… ذكرى الوطن المتبقية.
رفع العقوبات؟ قلت لي؟! مثل الذي يضع عطر “شانيل” على جثة متعفنة… ما الذي سيتغير؟ هل ستعود الكهرباء فجأة، هل سيعود الناس إلى منازلهم المهدمة؟ هل سيعود الشهداء الى الوطن؟
المشكلة ليست في العقوبات…
المشكلة في ان لا عطر يكفي لتغطية كل مساحات القتل والخراب الذي لا تزال رائحته تملأ الأجواء.
وكأنها عصا سحرية ستعيد الحياة إلى بلد ماتت فيه الأشياء. ماذا ستفعل الكهرباء في وطن يفتقد النور في عيني شعبه؟ ماذا تفعل الكهرباء في أرض أطفأتها سنوات من الغرق في الأوهام؟
عندما يتحدثون عن العقوبات، هل يتحدثون عن هذا الاقتصاد الذي يذوب أمام أعيننا؟
العقوبة الحقيقية هي أن ترى وطنك يُباع قطعة، قطعة في انحاء العالم؟ كل شيء قابل للبيع: المدارس، المستشفيات، الجبال، وحتى رائحة اليأس و… الثورة!
رفع العقوبات هي كلمة فارغة يرفعونها في فضائهم الافتراضي، وشعار لا يحمل أي وزن قد يخفى حقيقة أفظع…
هل يعتقد أحد أن رفع العقوبات يعني رفع معاناة الناس؟
بالطبع لا.
لا يكتفي ان ترفع الحظر عن استيراد الشوكولا والهواتف الذكية.
أفهم رفع العقوبات بطريقة واحدة فقط: أن ترفع يدك عن رقبة هذه الأمة،
أن لا تمنح رخصة جديدة للذبح،
أن تضع حد لهذا العبث الذي لا يتوقف.
لكن رفع العقوبات لن يحل أي شيء إذا كانت السلطة التي تدير البلاد لا تعمل من اجل البلاد! ولا يعقل أن نعلق آمالنا على رفع العقوبات بينما نغرق في الفوضى الداخلية التي أحدثتها الأيدي التي زعمت أنها تحمل الحل…
الحديث عن رفع العقوبات كالحديث عن الرياح التي تحرك السفن، حين تكون السفينة نفسها ثقيلة بما يكفي لتغرق… فالرياح لا تصنع معجزة حين تكون الأشرعة ممزقة، والدفة مكسورة، والماء يتسرب…والربان يقف على السطح يرفع كأس نخب النجاة! …
كان الأمل في سوريا أن تكون خالية من الطغاة،
واليوم أصبحت سوريا بأكملها في قبضة الطغاة…
المحللون الاقتصاديون تناوبوا على مدنا بتحاليل مثقوبة: انفتاح الأسواق! مشاريع إعادة إعمار! تحسن تدريجي! وكأن الأزمة كانت بسبب نقص في الإسمنت والكوابل الكهربائية، لا بسبب سكاكين الداخل وصمت الخارج.
لكنني اعرف، وانت تعرف جيدا، أن رفع العقوبات هو مجاز خادع، مثل الذي يعد طفل جائع بقطعة حلوى من متجر أُغلق منذ عشر سنوات… هو وعد فارغ لا معنى له!
يقولون بيئة استثمارية جديدة. اعرف هذا المصطلح، إنه ترجمة لكلمة نهب! ستدخل الشركات الأجنبية، وتبدأ بوزن الخراب وتحديد سعر كل متر مكعب في منطقة صالحة للسياحة أو الطاقة أو الزراعة.
هل تصدق أن هناك فجر سيشرق على هذا الوطن؟ بعد كل هذا الخراب، بعد كل هذه الأكاذيب؟
ليتم رفع العقوبات عن كل شيء، لكن الحقيقة الوحيدة التي لا يستطيع أي منكم رفعها هي أن أحمد الشرع وحكومته ليسوا سوى طغاة مزخرفين،
هناك حقيقة واحدة وثابتة هي انهم ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية… هنا في سوريا.
نعم، رفع العقوبات مهم! كخطوة أولى، في مسلسل طويل من الخطوات التي لن تحدث ما لم يتم رفع الحصار الحقيقي أولا عن: الخوف،
والنهب، والذبح، والخرس الجماعي المفروض على من تبقى.
العقوبات لم تكن يوما فقط من الخارج. كانت وما زالت صناعة وطنية بامتياز.
لكن لا تنسوا: الجثة لا تحييها الكهرباء، ولا تنقذها صناديق الاستثمار.
الجثة تحتاج إلى معجزة.
وسوريا اليوم… جثة تنتظر معجزة.
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس