نورالدين برحيلة: يوميات جـحْـش متفلسف

نورالدين برحيلة
أحداث هذه القِصّة واقعية، فقط تم تغيير الأسماء والأماكن، لغاية في نفس الجحش.. تبدأ وقائع هذه الحكاية في ليلة مُقْمِرة جميلة.. حين أجاء المخاض زوجة شهبندر الحمير، في تلك الحِقْبة لم تكن هناك مِصحّات ولا مستشفيات.. كانت القابلة تتصَبَبُ عرقا لمساعدة الأم الحامل لوضع جُحَيْـشِها..
أما “الشهبندر” فكان يتألم أكثر من زوجته التي كان صراخها يمزق سكون الليل.. وزوجها يَخِيطُ باحةَ الحظيرة ذهابا وإيابا في انتظار الخبر السار..
زغاريدُ القابلةِ.. إعلانٌ عن مولود ذكر.. جحش بن حمار بن حمار.. شجرة عائلة الحمير تزدهر.. وتمتد الحفلات في كل إسطبلات الحمير.. الضيوف من مختلف الهويات الحميرية.. القريبة والبعيدة.. من حُمر وحشية وأهلية، وبغال أصيلة.. ماعدا الخيول المغرورة، لا تحضر أبدا أفراح ولا أقراح الحمير، استعلاء وعجرفة وطغيانا واستكبارا..
قضى الجحش طفولة رائقة رائعة.. التحق بمدرسة الحظيرة الاستحمارية.. وكان شغوفا بالفلسفة.. وخصوصا فلسفة تاريخ الأجناس والحضارات والعلوم.. كَمْ صُدِمَ حين أدرك أن القطيع الذي ينتمي إليه يعيش في “محمية” تملكها حيوانات متوحشة قاسية.. ولَكَمْ أحزنته أفعال تلك الحيوانات تجاه فصيلته الحميرية.. الحمار في نظر حكام المَحْمِية، يتربع عرش الغَبَاءات المُتَعدِّدَة.. وهو حيوان قبيح خلق ليجلد ويركب..
لاحظت والدة الجحش شُرودَ ابنها في الأيام الأخيرة، وعدم رغبته في الدراسة.. وحزنه وفقدانه شهية الطعام.. غالبا ما كان الجحش الوسيم يدخل في نوبات بُكاء هستيرية.. كانت الحقيقة صادمة لجحش صغير..
خرجت الحمير في مظاهرات تطالب بإغلاق المدارس وحذف مادة الفلسفة.. وتعالت أصواتٌ تدعو إلى شنق مدرسي الفلسفة.. الذين أفسدوا عقول الصغار.. ما كان على المدرسين أن يتحدثوا مع الصغار على مفاهيم كبيرة.. مفهوم الحقيقة.. مفهوم العدالة.. مفهوم الحرية.. مفهوم العبودية.. مفهوم الديمقراطية..
الخطير جدا أن تلك الدروس بَدَلَ أن تتحدَّث عن فوائد التبن والبرسيم والشعير.. وحسنات ترويض الحمير بالسياط والتجويع والتركيع.. فإذا بالفلسفة تحفر في طابوهات السلطة.. العدالة الاقتصادية.. الفساد والاستبداد..الثروة وحقول النفط ومناجم الذهب والماس..
ما علاقة الفلسفة بالجغرافية الاقتصادية والخيرات الطبيعية والتوزيع العادل للثروة والتداول الديمقراطي للسلطة؟؟؟
هكذا كان مدرس الفلسفة يصيح داخل الفصل أمام تلامذته الأبرياء.. ثروة الأمم هي توظيف العلم من أجل العيش الكريم.. نعم أبنائي الأعزاء العلم نور.. والنور تنوير.. وخير مثال دولة الصين التي لا تستثمر المال العام في نظام التفاهة وكرة القدم ومسابقات الحمق والجنون.. لتشويه وعي الشعوب وتحويل البشر العقلاء إلى بهائم جهلاء..
الخطير أن الجهل اليوم لم يعد غيابا أو نقصا في المعرفة وإنما صناعة للجهل بنشر الأكاذيب والأوهام وإخفاء الحقائق والقصة طويلة وقديمة يستخدم فيها العلم المزيف على غرار تلك النظرية التي تقول إن أصلنا قردة.. أو حمير ..
لسنا حميرا ولم نخلق من أجل التبن والشعير.. والانغماس في التفاهة والنهيق..
لستم حميرا .. الخنازير والضباع اليوم تحكم العالم وتنشر ثقافة القبح وعقيدة الشر.. أنظروا يا أبنائي لقد أفنعوا الكثير من البشر أنهم كلاب وهاهم المساكين يرتدون أقنعة الكلاب ويطالبون بحقوقهم الكلبية.. وقد أقنعوا آخربن بأنهم خراف ونجحت الخطة وهاهم يرتدون أزياء الخرفان الضالة ويتسابقون في الثغاء.. أما نحن فقد أقنعوا أسلافنا وآباؤنا بأننا حمير كي يركبونا ويجلدونا ويجعلونكم أنتم أيها الصغار ألعابا لتسلية أبنائهم الصغار..
أمام المدرسة وقف شهبندر الحمير يدعو الجماهير إلى قطف رأس “المدرس الشرير” خرج ابنه الجحش الوسيم، وشرع يخاطب الحشود.. بلغة بسيطة عميقة.. لستم حميرا.. ولسنا جُحْشانا.. قاطعهُ والده: اسكت لعنة الله عليك يا جحش بن حمار..
بصوت هادئ واصل الابن حديثه بكلام معانيهِ بليغة.. وهو يُردِّد احذروا “اللغة”.. اللغة ماكرة.. مواصلا حديثه.. حين التحقت بالمدرسة كنت أجد وأجتهد، وكان والدي يسخر مني ويذكرني أنني مهما درست وكافحت فإني مستقبل باعتباري جحشا هو أن أصيرَ حمارا.. كان والدي في كل مناسبة يعيد على مسمعي أن هوية الحمير في التبن والبرسيم وأخلاق الحمير هي الصبر والخضوع والخنوع..
أما مدرسنا الجليل فقد أخبرنا أن الكائن يوجد أولا.. ويختار ما يكونه بإرادته ووعيه واختياره.. وأن الكائن يأكل ليعيش ولا يعيش ليأكل.. نعم فَضَحَ لنا مدرسنا الكثير من النقاشات التافهة التي تدخل في “مفهوم الإلهاء” على غرار تلك “اللهاية” التي تضعها الأم في فم طفلها الرضيع كي لا يصرخ ولا يحتج..
لكن فنَّ الإلهاء عند قراصنة المحمية أكبر بكثير.. فهو يُوَظِّفُ مفاهيم الصراع الهوياتي ليستحمر الكائنات الحية العاقلة.. وصَرْفِنا عن قضايانا الحقيقية والمصيرية.. نعم لقد نجحوا في إلهائنا بمختلف ضروب الإلهاء الخبيثة.. لنسيان بؤسنا وهضم حقوقنا وعدم الاهتمام بمصير إخوتنا في فلسطين الحبيبة والإبادة الجماعية في غزة الذبيحة.. وغيرها من القضايا الخطيرة..
يستدرك الجحش لقد صدق الفيلسوف ديكارت.. ليس المهم أن تمتلك عقلا جيدا.. بل الأهم أن تستخدمه بطريقة جيدة.. وهذا ما فعله سقراط في محاكمته الشهيرة.. لقد فضل الموت ولم يقبل بالتخلي عن فضح الأوهام وناضل من أجل نشر الحقيقة.. ما قيمة الحياة التي تسحب منا هويتنا الإنسانية..
قاطعه حمار كبير بلحية خفيفة: أي أيها الجحيش البليد.. صه صه.. تطاولت كثيرا.. أتريد تجريدنا من أخلاقنا الحميدة باسم العقل والعقلانية.. ألا تؤمن بالقدر خيره وشره.. هذا قدرنا.. وإن لم ترقك الحياة معنا بعاداتنا وأعرافنا فانتحر.. لترح وتسترح..
بأدب جمٍّ أجاب الجحش الصغير عاشق الفلسفة.. القدر يا عمي نحن من نصنعه بممارستنا للتفكير.. وأنصحك بقراءة كتاب “لغة التربية” للفيلسوف والمربي “ريبول” وستفاجأ من أن لغة التربية غير محايدة، وشعاراتها أفكار خطيرة.. ضجيج لا يهدأ لخدمة أهداف مُلاَّكِ المحمية.. وما تدعوه عادات وأعرافا هي أفكار جاهزة على أننا حمير.. فتكون وظيفة التربية هنا ماكرة.. لأنها تهدف إلى تربيتنا على قبول الاستحمار والطاعة والعبودية.. ولن أنتحر يا عمي.. لأن الأغبياء فقط والجبناء هم من ينتحرون… ينتحرون بالمخدرات.. ينتحرون بالعنف.. ينتحرون بالاستسلام.. وسأحكي لك قصة الجحش المنتحر.. معذرة هي مجرد قصيصة أو أقصوصة صغيرة جدا:
كان يا مكان في محمية فاسدة استشرى فيها وباء الظلم، جحش جميل، قضى طفولته في خدمة أطفال ملاك الضيعة.. يسخرون منه.. يركبونه بالعشرات.. يركلونه بأقسى الضربات والركلات.. وذات يوم ربيعي جميل.. كان قوس قزح يفتح أبوابه البيضاء الواعدة بالأحلام الخضراء.. والفراشات المزركشة تمنح أجمل الهدايا للأزهار الحمراء.. في تلك اللحظة انتحر الجحش المسكين.. لأن أمثالك أقنعوه أن مستقبله مهما درس وكافح وحاول.. مستقبله أن يصير حمارا..
بمجرد سماع الجماهير لقصة الجحش المنتحر.. أخذت تهتف.. لسنا حميرا.. لسنا حميرا.. لسنا حميرا.. سنحيا.. سنعيش.. سنقاوم.. سننتصر..
كاتب عربي متخصص في الفلسفة وعلوم التربية